ومن ثم شرع في قصة أخرى وذلك قوله تعالى واذكر في الكتاب إلخ فهو كلام مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر عليه الصلاة والسلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه السلام لما بينهما من كمال الاشتباك والمناسبة . والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرآن كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه السلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم السلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها (مريم) أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان .
وقوله تعالى : إذ انتبذت ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء . وجعله ظرفا لفعل محذوف أي واذكر أبو حيان مريم وما جرى لها إذ انتبذت، وما ذكرناه أولى . وقيل : هو ظرف لمحذوف وقع حالا من ذلك المضاف ، وقيل : بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة .
وتعقبه بأن الزمان إذا لم يقع حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا صفة لها لم يكن بدلا منها . ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البدلية ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح فيه البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل، وكون ذلك حال الزمان فقط غير بين ولا مبين . وقيل : بدل كل من كل على أن المراد أبو البقاء بمريم قصتها وبالظرف الواقع فيه وفيه بعد . وقيل : (إذ) بمعنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي . وهذا قول ضعيف للنحاة . والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية إن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الاشتمال .
والانتباذ الاعتزال والانفراد .
وقال يقال : انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس والنبذ : إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به . الراغب
وقوله تعالى من أهلها متعلق بانتبذت ، وقوله سبحانه مكانا شرقيا قيل نصب على الظرف ، وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه . واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكانا شرقيا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هنا للعبادة ، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بحبل على ما روي عن أو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى : ابن عباس