وجعل الطيبي الجملة حالا من الضمير في ليقولن بتقدير ونحن نضع ، وهي في الخلو عن العائد نحو جئتك والشمس طالعة ، ويجوز أن يقال : أقيم العموم في نفس الآتي بعد مقام العائد وهو كما ترى أي ونحضر الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال كما يقضي بذلك حديث السجلات والبطاقة التي ذكره وغيره أو نفس الأعمال كما قيل ، وتظهر بصور جوهرية مشرقة إن كانت حسنات ومظلمة إن كانت سيئات ، وجمع الموازين ظاهر في تعدد الميزان حقيقة وقد قيل به فقيل لكل أمة ميزان ، وقيل لكل مكلف ميزان ، وقيل للمؤمن موازين بعدد خيراته وأنواع حسناته ، والأصح الأشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال كفتاه كأطباق السماوات والأرض لصحة الأخبار بذلك ، والتعدد اعتباري وقد يعبر عن الواحد بما يدل على الجمع للتعظيم كقوله تعالى : مسلم رب ارجعون لعلي أعمل صالحا [المؤمنون : 99] وقوله فارحموني يا إله محمد ، وإحضار ذلك تجاه العرش بين الجنة والنار ويأخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظرا إلى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه كما في نوادر الأصول ، وهل هو مخلوق اليوم أو سيخلق غدا ؟ .
قال اللقاني : لم أقف على نص في ذلك كما لم أقف على نص في أنه من أي الجواهر هو اهـ ، وما روي من أن داود عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات ؟ فقال تعالى : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة ، نص في أنه مخلوق اليوم لكن لا أدري حال الحديث فلينقر .
وأنكر المعتزلة الميزان بالمعنى الحقيقي وقالوا : يجب أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك على رعاية العدل والإنصاف ، ووضع الموازين عندهم تمثيل لإرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال ، وروي هذا عن الضحاك وقتادة ومجاهد ولا داعي إلى العدول عن الظاهر ، وإفراد القسط مع كونه [ ص: 55 ] صفة الجمع لأنه مصدر ووصف به مبالغة ، ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي ذوات القسط ، وجوز والأعمش أن يكون مفعولا لأجله نحو قوله : لا أقعد الجبن عن الهيجاء وحينئذ يستغنى عن توجيه إفراده . وقرئ (القصط ) بالصاد ، واللام في قوله تعالى : أبو حيان ليوم القيامة بمعنى في كما نص عليه ابن مالك وأنشد لمجيئها كذلك قول مسكين الدارمي :
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما مضى من قبل عاد وتبع
وهو مذهب الكوفيين ووافقهم أي نضع الموازين في يوم القيامة التي كانوا يستعجلونها وقال غير واحد : هي للتعليل أي لأجل حساب يوم القيامة أو لأجل أهله وجعلها بعضهم للاختصاص كما هو أحد احتمالين في قولك جئت لخمس ليال خلون من الشهر ، والمشهور فيه وهو الاحتمال الثاني أن اللام بمعنى في : ابن قتيبة فلا تظلم نفس من النفوس شيئا من الظلم فلا ينقص ثوابها الموعود ولا يزاد عذابها المعهود . فالشيء منصوب على المصدرية والظلم هو بمعناه المشهور .
وجوز أن يكون ( شيئا ) مفعولا به على الحذف والإيصال والظلم بحاله أي فلا تظلم في شيء بأن تمنع ثوابا أو تزاد عذابا ، وبعضهم فسر الظلم بالنقص وجوز في ( شيئا ) المصدرية والمفعولية من غير اعتبار الحذف والإيصال أي فلا تنقص شيئا من النقص أو شيئا من الثواب ، ويفهم عدم الزيادة في العقاب من إشارة النص واللزوم المتعارف ، واختير ما لا يحتاج فيه إلى الإشارة واللزوم ، والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين .
وربما يفهم من ذلك أن كل أحد توزن أعماله ، وقال : الميزان حق ولا يكون في حق كل أحد بدليل الحديث الصحيح فيقال : يا القرطبي محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن الحديث وأحرى الأنبياء عليهم السلام ، وقوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام [الرحمن : 41] وقوله تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا [الكهف : 105] . وقوله سبحانه : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [الفرقان : 23] . وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله سبحانه من الفريقين .
وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صبا ، وظواهر أكثر الآيات والأحاديث تقتضي وزن أعمال الكفار ، وأول لها ما اقتضى ظاهره خلاف ذلك وهو قليل بالنسبة إليها ، وعندي لا قاطع في عموم الوزن وأميل إلى عدم العموم ، ثم إنه كما اختلف في عمومه بالنسبة إلى أفراد الإنس اختلف في عمومه بالنسبة إلى نوعي الإنس والجن ، والحق أن مؤمني الجن كمؤمني الإنس وكافرهم ككافرهم كما بحثه واستنبطه من عدة آيات ، وبسط القرطبي اللقاني القول في ذلك في شرحه الكبير للجوهرة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الخلاف في كيفية الوزن وإن كان أي العمل المدلول عليه بوضع الموازين ، وقيل الضمير راجع لشيئا بناء على أن المعنى فلا تظلم جزاء عمل من الأعمال مثقال حبة من خردل أي مقدار حبة كائنة من خردل فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة ، وجوز أن يكون صفة لمثقال والأول أقرب ، والمراد وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر .
وقرأ رضي الله تعالى عنهما ، زيد بن علي وأبو جعفر وشيبة (مثقال ) بالرفع على أن كان [ ص: 56 ] تامة ونافع أتينا بها أي جئنا بها وبه قرأ ، والمراد أحضرناها ، فالباء للتعدية والضمير للمثقال وأنث لاكتساب التأنيث من المضاف إليه والجملة جواب إن الشرطية ، وجوز أن تكون إن وصلية والجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر . وقرأ أبي ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني (آتينا ) بمدة على أنه مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه تعالى بالأعمال وأتاهم بالجزاء ، وقيل هو من الإيتاء وأصله أأتينا فأبدلت الهمزة الثانية ألفا ، والمراد جازينا أيضا مجازا ولذا عدي بالباء ولو كان المراد أعطينا كما قال بعضهم لتعدى بنفسه كما قال وغيره . وقرأ ابن جني حميد (أثبنا ) من الثواب وكفى بنا حاسبين قيل أي عادين ومحصين أعمالهم على أنه من الحساب مرادا به معناه اللغوي وهو العد وروي ذلك عن ، وجوز أن يكون كناية عن المجازاة . وذكر السدي اللقاني أن الحساب في عرف الشرع توقيف الله تعالى عباده إلا من استثني منهم قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيرا كانت أو شرا تفصيلا لا بالوزن ، وأنه كما ذكر وغيره وجزم به صاحب كنز الأسرار قبل الوزن ، ولا يخفى أن في الآية إشارة ما إلى أن الحساب المذكور فيها بعد وضع الموازين فتأمل ، ونصب الوصف إما على أنه تمييز أو على أنه حال واستظهر الأول في البحر . الواحدي