خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرا متجددا مستمرا، أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون وهذا نوع من العذاب الأدنى، ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون وصرح بالمستهزإ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصا، وإنما تركه المنافقون فيما حكي عنهم خوفا من وصوله للمؤمنين، فأبقوا اللفظ محتملا ليكون لهم مجال في الذب، إذا حوققوا، فجعل الله تعالى كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا ويمدهم في طغيانهم يعمهون معطوف على قوله سبحانه وتعالى : يستهزئ بهم كالبيان له على رأي، والمد من مد الجيش وأمده بمعنى أي ألحق به ما يقويه ويكثره، وقيل : مد زاد من الجنس، وأمد زاد من غير الجنس، وقيل : مد في الشر وأمد في الخير، عكس وعد وأوعد، وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب فبشرهم بعذاب أليم وقد ورد استعمال هذه المادة بمعنيين أحدهما ما ذكرنا، وثانيهما الإمهال ومنه مد العمر، والواقع هنا من الأول دون الثاني، لوجهين، الأول أنه روي عن من غير السبعة (يمدهم) بالضم من المزيد، وهو لم يسمع في الثاني، والثاني أنه متعد بنفسه، والآخر متعد باللام، والحذف والإيصال خلاف الأصل، فلا يرتكب بغير داع، فمعنى يمدهم في طغيانهم يزيدهم، ويقويهم فيه، وإلى ذلك ذهب ابن كثير وغيره، والحق أن الإمهال هنا محتمل، وإليه ذهب البيضاوي ، الزجاج وابن كيسان ، والوجهان مخدوشان، فقد ورد عند من يعول عليه من أهل اللغة كل منهما ثلاثيا، ومزيدا، ومعدى بنفسه وباللام، وكلاهما من أصل واحد، ومعناهما يرجع إلى الزيادة، كما أو كيفا، وفي الصحاح مد الله في عمره ومده في غيه أمهله، وطول له [ ص: 160 ] وروي عن رضي الله تعالى عنه أن مد الله تعالى في طغيانهم التمكين من العصيان، وعن ابن مسعود الإملاء، ونسبة المد إلى الله تعالى بأي معنى كان عند أهل الحق حقيقة إذ هو سبحانه وتعالى الموجد للأشياء، المنفرد باختراعها على حسب ما اقتضته الحكمة ورفعت له أكفها الاستعدادات، ونسبته إلى غيره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه : ابن عباس وإخوانهم يمدونهم في الغي نسبة التوفي إلى الملك في قوله تعالى : يتوفاكم ملك الموت مع قوله جل وعلا: الله يتوفى الأنفس وذهبت المعتزلة أن الزيادة في الطغيان والتقوية فيه مما يستحيل نسبته إليه تعالى حقيقة، وحملوا الآية على محامل أخر، وقد قدمنا ما يوهن مذهبهم، فلنطوه هنا على ما فيه، والطغيان بضم الطاء على المشهور، وقرأ رضي الله تعالى عنهما بكسرها، وهما لغتان فيه، وقد سمعا في مصدر اللقاء، وقد أماله زيد بن علي وأصله تجاوز المكان الذي وقفت فيه، ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فقد طغى، ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه، وإضافته إليهم، لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى، فالاختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار المحلية، والاتصاف، فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة، ولا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقف على إذن الفعال لما يريد، فإنه اعتبار عليه غبار بل غبار ليس له اعتبار، فلا تهولنك جعجعة الكسائي، ، وقعقعته، ويحتمل أن يكون الاختصاص للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم، كلا شيء لادعاء اختصاصهم به، وليس بالمنحرف عن سنن البلاغة، (والعمه) التردد والتحير، ويستعمل في الرأي خاصة، والعمى فيه وفي البصر، فبينهما عموم وخصوص مطلق في الاستعمال، وإن تغايرا في أصل الوضع، واختص العمى بالبصر على ما قيل، وأصله الأصيل عدم الإمارات في الطريق التي تنصب لتدل من حجارة وتراب ونحوهما، وهي المنار، ويقال: عمه يعمه كتعب يتعب عمها وعمهانا، فهو عمه وعامه وعمهاء، فمعنى يعمهون على هذا يترددون ويتحيرون، وإلى ذلك ذهب جمع من المفسرين، وقيل : العمة العمى عن الرشد، وقال الزمخشري : هو أن يكب رأسه فلا يبصر ما يأتي، فالمعنى يعمون عن رشدهم أو يكبون رؤوسهم فلا يبصرون، وكأن هذا أقرب إلى الصواب، لأن المنافقين لم يكونوا مترددين في الكفر بل كانوا مصرين عليه، معتقدين أنه الحق، وما سواه باطل، إلا أن يقال: التردد والتحير في أمر آخر، لا في الكفر، وجملة يعمهون في موضع نصب على الحال، إما من الضمير في يمدهم، وإما من الضمير في طغيانهم، لأنه مصدر مضاف إلى الفاعل، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقا بيمدهم، وأن يكون متعلقا بيعمهون، وجاز على خلاف كون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم، ابن قتيبة