أينتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذا مذهب ابن الحسن، وليس بالحسن إلا في الضرورة، والقول بالزيادة كما في قوله : فصيروا مثل كعصف مأكول زيادة في الجهل، والذي وضع موضع الذين إن كان ضمير (بنورهم) راجعا إليه، وإلا فهو باق على ظاهره، إذ لا ضير في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد، وجاز هنا وضع المفرد موضع الجمع، وقد منعه الجمهور، فلم يجوزوا إقامة القائم مقام القائمين، لأن هذا مخالف لغيره، لخصوصية اقتضته، فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل، فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه، ولأنه مع صلته كشيء واحد، وعلامة الجمع لا تقع حشوا فلذا لم [ ص: 164 ] يلحقوها به، ووضعوه لما يعم، كمن وما، والذين ليس جمعا له، بل هو اسم وضع مزيدا فيه لزيادة المعنى، وقصد التصريح بها، ولذا لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح، ولأنه استطال بالصلة، فاستحق التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن اقتصر على اللام في نحو اسم الفاعل، قاله القاضي وغيره، ولا يخلو عن كدر، لا سيما الوجه الأخير، وما روي عن بعض النحاة من جواز حذف نون الذين، ليس بالمرضي عند المحققين، ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه، كما في قوله تعالى : وخضتم كالذي خاضوا على وجه، وقول الشاعر :يا رب عيسى لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد
كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع
وبالبدو منا أسرة يحفظونها سراع إلى الداعي عظام كراكره
وقال رضي الله تعالى عنه : العباس
وأنت لما ظهرت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق
وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما اتصلت من نوره بهم
بتنا وعمر الليل في غلوائه وله بنور البدر فرع أشمط
وتركهم في ظلمات لا يبصرون عطف على قوله تعالى: ذهب الله بنورهم وهو أوفى بتأدية المراد، فيستفاد منه التقرير لانتفاء النور بالكلية تبعا لما فيه من ذكر الظلمة، وجمعها وتنكيرها وإيراد لا يبصرون وجعل الواو للحال بتقدير قد، مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور، ومعه، وليس المعنى عليه، والترك في المشهور طرح الشيء، كترك العصا من يده، أو تخليته محسوسا كان أو غيره، وإن لم يكن في يده، كترك وطنه ودينه، وقال : ترك الشيء رفضه قصدا واختيارا أو قهرا، واضطرارا، ويفهم من المصباح أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات، ثم استعير في المعاني، وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير، أم لا، خلاف، والكل هنا محتمل، فعلى الأول (هم) مفعوله الأول، و(في ظلمات) مفعوله الثاني، و(لا يبصرون) صفة (لظلمات) بتقدير فيها، أو حال من الضمير المستتر، أو من (هم)، ولا يجوز أن يكون (في ظلمات) حالا و(لا يبصرون) مفعولا ثانيا، لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكدا، وإن جوزه بعضهم، وعلى الثاني (هم) مفعوله و(في ظلمات لا يبصرون)، حالان مترادفان من المفعول، أو متداخلان، فالأول من المفعول، والثاني من الضمير فيه، و(في ظلمات) متعلق بـ(تركهم) و(لا يبصرون) حال، والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئا، فالتقابل بينها وبين الضوء تقابل العدم والملكة، واعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك، وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى : الراغب وجعل الظلمات والنور والمجعول لا يكون إلا موجودا، وأجيب عن الأول بمنع الصغرى، فإنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئا ألبتة، كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة، وعن الثاني بالمنع أيضا، فإن الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف، وقيل : كيفية مانعة من الإبصار، فالتقابل تقابل التضاد، واعترض بأنه لو كانت كيفية لما اختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية، وعدمها، إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها، فيندفع الاعتراض عنه، وربما يرجح عليه، بأنه قد يصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه، كما قيل، وقيل : التقابل بين النور والظلمة تقابل الإيجاب والسلب ، وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع، سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين، أو المنافقين، أو لأنها في الحقيقة، وإن [ ص: 168 ] كانت ظلمة واحدة لكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة كما قيل: رب واحد يعدل ألفا، أو لأنه لما كان لكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الاعتبار، كذا قالوا، ومن اللطائف أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة، والنور حيثما وقع وقع مفردا، ولعل السبب هو أن الظلمة وإن قلت تستكثر، والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر، وأيضا كثيرا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان، والقليل من الكفر كثير، والكثير من الإيمان قليل، فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك، ولا الاكتفاء بكثير من هذا، وأيضا معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب الكفار " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين، وهي كقلب رجل واحد، وأيضا النور المفاض هو الوجود المضاف، وهو واحد لا تعدد فيه، كما يرشدك إليه قوله تعالى : الله نور السماوات والأرض وفي الظلمة لا يرى مثل هذا، وأيضا الظلمة يدور أصل معناها على المنع، فلذا أخذت من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا، أي ما منعك، وفي مثلثات ابن السيد: الظلم بفتح الظاء شخص كل شيء يسد بصر الناظر، يقال: لقيته أول ذي ظلم، أي أول شخص يسد بصري، وزرته والليل ظلم، أي مانع من الزيارة، فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور، وتمنع الرؤية، فباعتبار تعدد الموانع جمعت، ولم يعتبر مثل هذا في أصل معنى النور، فلم يجمع إلى غير ذلك، وإنما نكرت ظلمات هنا، ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اختصارا للفظ، واكتفاء بما دل عليه المعنى، والظرفية مجازية، كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء : و(لا يبصرون) منزل منزلة اللازم لطرح المفعول نسيا منسيا، ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول، فيفيد العموم، وقرأ الجمهور (في ظلمات) بضم اللام، والحسن وأبو السماك بسكونها، وقوم بفتحها، والكل جمع ظلمة .
وزعم قوم أن ظلمات بالفتح جمع ظلم جمع ظلمة، فهي جمع الجمع، والعدول إلى الفتح تخفيفا مع سماعه في أمثاله أسهل من ادعاء جمع الجمع، إذ ليس بقياسي، ولا دليل قطعي عليه، وقرأ اليماني (في ظلمة)، وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة الشهادة على ألسنة من ذكر، والتحلي بحلية المؤمنين، ونحو ذلك، مما يمنع من قتلهم، ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن والمغانم، وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين بإيقاد نار مضيئة للانتفاع بها أطفأها الله تعالى فهبت عليهم الرياح، والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة، ويحتمل أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها، وطبع الله تعالى بها على قلوبهم بذهاب الله تعالى بنورهم، وتركه إياهم في الظلمات، والتفسير المأثور عن رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه ابن عباس عنه أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لاجتناء ثمراته بنار ساطعة الأنوار موقدة للانتفاع والاستبصار، ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم، وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها، وإذهاب نورها، ويشتمل التشبيه وجوها أخر، (ومن البطون القرآنية التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم) أن الآية مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق، فعمل عمل الظاهر، وما وجد حلاوة الباطن، فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال، أو مثل من استوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة، فأضاءت ظواهره بالصيت، والقبول، فأفشى الله تعالى نفاقه بين الخلق حتى نبذوه في الآخر، ولا يجد مناصا من الفضيحة يوم تبلى السرائر، وقال ابن جرير أبو الحسن الوراق : هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم يصحح أحوال الإرادة، فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر، فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها، فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله تعالى عنه تلك الأنوار، وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها، نسأل الله تعالى العفو والعافية ونعوذ به من الحور بعد الكور،