وقد جاء بهذا المعنى كما في قول عمر لأبي عبيدة رضي الله تعالى عنهما: اظهر بمن معك من المسلمين إليها، أي الأرض، يعني اخرج إلى ظاهرها. وفي حديث رضي الله تعالى عنها: عائشة أي لم يخرج إلى ظاهرها، فسقط ما أورد عليه من أنه لو أريد الظهور لقيل "فإذا هم مبصرون" ولم يقل "فإذا هم مظلمون"؛ لأن الواقع عقيب ظهور النهار من ظلمة الليل إنما هو الإبصار لا الإظلام من غير حاجة إلى حمل العبارة على القلب؛ أي ظهور ظلمة الليل من النهار، وبعضهم رفع هذا الإيراد بأن النهار عبارة عن مجموع المدة من طلوع الفجر أو الشمس إلى الغروب لا عن بعضها، فالواقع عقيب هذه المدة كلها الدخول في الظلام. وتعقبه (كان صلى الله عليه وسلم يصلي العصر ولم يظهر الفيء بعد من الحجرة.) السالكوتي بأن الدخول في الظلام مترتب على السلخ لا على انقضاء مدة النهار.
ولعل مراد البعض أن السلخ بمعنى ظهور النهار لا يتحقق إلا بظهور كل أجزائه ومتى ظهرت أجزاء النهار كلها انقضت مدته، وذكر العلامة القطب أن السلخ قد يكون بمعنى النزع نحو سلخت الإهاب عن الشاة، وقد يكون بمعنى الإخراج نحو سلخت الشاة من الإهاب، والشاة مسلوخة، فذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي إلى الثاني وغيرهما إلى الأول، فاستعمال الفاء في (فإذا هم) ظاهر على قول الغير، وأما على قولهما فإنما يصح من جهة أنها موضوعة لما يعد في العادة مرتبا غير متراخ، وهذا يختلف باختلاف الأمور والعادات، فقد يطول الزمان والعادة في مثله تقتضي عدم اعتبار المهلة، وقد يكون بالعكس كما في هذه الآية. فإن زمان النهار وإن توسط بين إخراج النهار من الليل وبين دخول الظلام لكن لعظم دخول الظلام بعد إضاءة النهار وكونه مما ينبغي أن لا يحصل إلا في أضعاف ذلك الزمان عد الزمان قريبا وجعل الليل كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل بلا مهلة.
ثم لا يخفى أن إذا المفاجئة إنما تصح إذا جعل السلخ بمعنى الإخراج كما يقال: أخرج النهار من الليل ففاجأه دخول الليل فإنه مستقيم بخلاف ما إذا جعل بمعنى النزع فإنه لا يستقيم أن يقال: نزع ضوء الشمس عن الهواء ففاجأه الظلام، كما لا يستقيم أن يقال: كسرت الكوز ففاجأه الانكسار؛ لأن دخولهم في الظلام عين حصول الظلام فيكون نسبة دخولهم في الظلام إلى نزع ضوء النهار كنسبة الانكسار إلى الكسر فلهذا جعلا السلخ [ ص: 11 ] بمعنى الإخراج دون النزاع اهـ كلامه، وقواه العلامة الثاني بأنه لا شك أن الشيء إنما يكون آية إذا اشتمل على نوع استغراب واستعجاب بحيث يفتقر إلى نوع اقتدار إنما هو مفاجأة الظلام عقيب ظهور النهار لا عقيب زوال ضوء النهار.
وقال السالكوتي : إن عدم استقامة المفاجأة فيما ذكر لأنها إنما تتصور فيما لا يكون مترقبا بل يحصل بغتة وحينئذ يمكن أن يقال في الجواب: إن نزع الضوء عن الليل لكون ظهوره في غاية الكمال كان المترقب فيه أن يكون في مدة مديدة، فحصول الظلام بعده في مدة قصيرة أمر غير مترقب، ثم قال: وبهذا ظهر الجواب عن التقوية، وقيل: إن الظلمة لكونها مما تنفر عنها الطباع وتكرهها النفوس يكون حصولها كأنه غير مترقب ويكفي نفس السلخ في الدلالة على الاقتدار، والذي يقتضيه ما سبق عن الطيبي واليمني أن الشيخ والسكاكي أرادا إخراج النهار من الليل إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوئه كما قال ، ومآله إزالة ضوء النهار من مكان الليل وموضع ظلمته كما قال الزجاج ، وجاء في كلامهم الظهور بمعنى الزوال كما في قول الفراء أبي ذؤيب:
وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وحكى الجوهري : يقال هذا أمر ظاهر عنك عاره أي زائل. وقال في قول المرزوقي الحماسي:
وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
أيضا، كذلك فلا مانع من أن يكون في كلام الشيخين بهذا المعنى، ويراد بالظهور الإظهار، والتعبير به مساهلة لظهور أن (نسلخ) متعد فيرجع الأمر إلى الإزالة فيتحد كلامهما بما قاله وكذا على ما قيل المراد بالظهور الخروج على وجه المفارقة لظهور الزوال فيه حينئذ وأمر المساهلة على حاله، وعلى القول بالاتحاد يجيء اعتراض العلامة والجواب هو الجواب فتأمل والله تعالى الهادي إلى الصواب. الفراء
وفي الآية على ما قال غير واحد دلالة على أن الأصل الظلمة والنور طارئ عليها يسترها بضوئه وفي الحديث ما يشعر بذلك أيضا. روى الإمام أحمد، ، عن والترمذي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: عبد الله بن عمرو بن العاص "إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره اهتدى ومن أخطأه ضل" .