[ ص: 39 ] وامتازوا اليوم أيها المجرمون أي انفردوا عن المؤمنين إلى مصيركم من النار. وأخرج وغيره عن عبد بن حميد أي اعتزلوا عن كل خير، وعن قتادة لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى أي على خلاف ما للمؤمنين من الاجتماع مع من يحبون، ولعل هذا بعد زمان من أول دخولهم فلا ينافي عتاب بعضهم بعضا الوارد في آيات أخر كقوله تعالى الضحاك وإذ يتحاجون في النار ويحتمل أنه أراد لكل صنف كافر كاليهود والنصارى، وجوز الإمام كون الأمر أمر تكوين كما في" كن فيكون " على معنى أن الله تعالى يقول لهم ذلك فتظهر عليهم سيماء يعرفون بها كما قال سبحانه يعرف المجرمون بسيماهم ولا يخفى بعده، والجملة عطفا إما على الجملة السابقة المسوقة لبيان أحوال أصحاب الجنة من عطف القصة على القصة فلا يضر التخالف إنشائية وخبرية، وكأن تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين الفريقين وحاليهما، وإما على مضمر ينساق إليه حكاية حال أصحاب الجنة كأنه قيل إثر بيان كونهم في شغل عظيم الشأن وفوزهم بنعيم مقيم يقصر عنه البيان فليقروا بذلك عينا وامتازوا عنهم أيها المجرمون.
قال أبو السعود ، وقال الخفاجي : يجوز أن يكون بتقدير "ويقال امتازوا" على أنه معطوف على "يقال" المقدر العامل في "قولا" وهو أقرب وأقل تكلفا؛ لأن حذف القول وقيام معموله مقامه كثير حتى قيل فيه هو البحر حدث عنه ولا حرج، وفيه بحث يظهر بأدنى تأمل، وقيل: إن المذكور من قوله تعالى إن أصحاب الجنة إلى هنا تفصيل للمجمل السابق أعني قوله تعالى: ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون وبني عليه أن المعطوف عليه متضمن لمعنى الطلب على معنى فليمتز المؤمنون عنكم يا أهل المحشر إلى الجنة وامتازوا عنهم إلى النار، وتعقبه في الكشف بأنه ليس بظاهر إذ بأحد الأمرين غنية عن الآخر ثم قال: والوجه أن المقصود عطف جملة قصة أصحاب النار على جملة قصة أصحاب الجنة وأوثرها هنا الطلب زيادة للتهويل والتعنيف ألا ترى إلى قوله تعالى اصلوها اليوم وإن كان لا بد من التضمين فالمعطوف أولى بأن يجعل في معنى الخبر على معنى وأن المجرمين ممتازون منفردون.
وفائدة العدول ما في الخطاب والطلب من النكتة اهـ، وما ذكره من حديث أغناه أحد الأمرين عن الآخر سهل لكون الأمر تقديريا مع أن الامتياز الأول على وجه الإكرام وتحقيق الوعد، والآخر على وجه الإهانة وتعجيل الوعيد فيفيد كل منهما ما لا يفيده الآخر، نعم قال العلامة أبو السعود في ذلك: إن اعتبار فليمتز المؤمنون وإضماره بمعزل عن السداد لما أن المحكي عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضية حتى يتسنى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنما هو استقرارهم عليها بالفعل، وكون ذلك تنزيل المترقب منزلة الواقع لا يجدي نفعا لأن مناط الاعتبار والإضمار انسياق الأفهام إليه وانصباب نظم الكلام عليه فبعد التنزيل المذكور وإسقاط الترقب عن درجة الاعتبار يكون التصدي لإضمار شيء يتعلق به إخراجا للنظم الكريم عن الجزالة بالمرة، والظاهر أنه لا فرق في هذا بين التضمين والإضمار، والذي يغلب على الظن أن ما ذكر لا يفيد أكثر من أولوية تقدير "فليقروا عينا" على تقدير "فليمتازوا" فليفهم. وقال بعض الأذكياء: يجوز أن يكون امتازوا فعلا ماضيا والضمير للمؤمنين أي انفرد المؤمنون عنكم بالفوز بالجنة ونعيمها أيها المجرمون ففيه تحسير لهم والعطف حينئذ من عطف الفعلية الخبرية على الاسمية الخبرية ولا منع منه، وتعقب بأنه مع ما فيه من المخالفة للأسلوب المعروف من وقوع النداء مع الأمر - نحو يوسف أعرض عن هذا - قليل الجدوى وما ذكره من التحسير يكفي فيه ما قبل من ذكر ما هم عليه من [ ص: 40 ] التنعم وأيضا المأثور يأبى عنه غاية الإباء وهو كالنص في أن امتازوا فعل أمر ولا يكاد يخطر لقارئ ذلك.