وجوز أن يراد بالطمس إذهاب الضوء من غير إذهاب العضو وأثره أي ولو نشاء لأعميناهم، وإيثار صيغة الاستقبال - وإن كان المعنى على المضي - لإفادة أن عدم الطمس على أعينهم لاستمرار عدم المشيئة، فإن المضارع المنفي الواقع موقع المضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه.
وقوله تعالى: فاستبقوا الصراط عطف على لطمسنا على الفرض و"الصراط" منصوب بنزع الخافض أي فأرادوا الاستباق إلى الطريق الواضح المألوف لهم. فأنى يبصرون أي فكيف يبصرون ذلك الطريق [ ص: 45 ] وجهة السلوك، والمقصود إنكار إبصارهم، وحاصله: لو نشاء لأذهبنا أحداقهم وأبصارهم فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لا يقدرون عليه ولا يبصرونه، وتأويل "استبقوا" بـ "أرادوا الاستباق" مما ذهب إليه البعض، وقيل لا حاجة لتأويله فإن الأعمى يجوز شروعه في السباق، ونصب الصراط بنزع الخافض ولم ينصب على الظرفية لأنه كالطريق مكان مختص، ومثله لا ينتصب على الظرفية، وجوز كونه مفعولا به لتضمين "استبقوا" معنى ابتدروا، ونقل عن الأساس في قسم الحقيقة فاستبقوا الصراط ابتدروه، قال في الكشف: فعليه لا تضمين، وادعى بعضهم توهم دعوى أن ذلك معنى حقيقي، وصاحب الأساس إنما ذكره في آخر قسم المجاز، والمعنى لو شئنا لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا الاستباق متبدرين الطريق لا يبصرون، وقيل: يجوز كونه مفعولا به على أن "استبقوا" بمعنى سبقوا ويجعل الطريق مسبوقا على التجوز في النسبة أو الاستعارة المكنية، أو على أنه بمعنى جاوزوا، قال في القاموس: استبق الصراط جاوزه وظاهره أنه حقيقة في ذلك، وقال غير واحد: هو مجاز والعلاقة اللزوم، والمعنى ولو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو طالبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا، يعني أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضربوا به من المقاصد دون غيرها.
وذهب ابن الطراوة إلى أن الصراط والطريق وما أشبههما من الظروف المكانية ليست مختصة فيجوز انتصابها على الظرفية، وهذا خلاف ما صرح به وجعل انتصابها على الظرفية من الشذوذ وأنشد: سيبويه
لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب
والمعنى في الآية لو انتصب على الظرفية لو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا، وحمل الأعين على ما هو الظاهر منها - أعني الأعضاء المعروفة - والصراط على الطريق المحسوس هو المروي عن الحسن ، وعن وقتادة حمل الأعين على البصائر والصراط على الطريق المعقول. ابن عباس
أخرج وجماعة عنه أنه قال: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم أعميناهم وأضللناهم عن الهدى ابن جرير فأنى يبصرون فكيف يهتدون وهو خلاف الظاهر. وقرأ عيسى "فاستبقوا" على الأمر وهو على إضمار القول، أي فيقال لهم: استبقوا، وهو أمر تعجيز؛ إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين