وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
ويدل على أنه أراد بها الخمر إطلاقا للمحل على الحال - قوله "شربت"، وتقدير شربت ما فيها تكلف، والقرينة هاهنا [ ص: 87 ] ما يأتي بعد. وجوز تفسيره بمعناه الحقيقي وهو إناء فيه خمر، وأكثر اللغويين على أن إناء الخمر لا يسمى كأسا حقيقة إلا وفيه خمر فإن خلا منه فهو قدح، والخمر ليس بمتعين، قال في البحر: الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسا إلا وفيه ذلك، وقال : الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا، يقال: كأس خال، ويقال: شربت كأسا وكأس طيبة، ولعل كلامه أظهر في أن تسمية الخالي كأسا مجاز، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكأس من الأواني كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض ولا يراعى كونه لخمر أو لغيره. الراغب من معين في موضع الصفة لكأس أي كائنة من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون جار على وجه الأرض كما تجري الأنهار أو خارج من العيون والمنابع. وأصله معيون من عان الماء إذا ظهر أو نبع على أن ميمه زائدة أو هو من معن فهو فعيل على أن الميم أصلية.
ووصف به خمر الجنة تشبيها لها بالماء لكثرتها حتى تكون أنهارا جارية في الجنان. ويؤذن ذلك برقتها ولطافتها وأنها لم تدس بالأقدام كخمر الدنيا كما ينبئ عن دوسها بها قوله:
بنت كرم يتموها أمها ثم هانوها بدوس بالقدم
ثم عادوا حكموها فيهم ويلهم من جور مظلوم حكم
وقوله الآخر:
وشمولة من عهد عاد قد غدت صرعى تداس بأرجل العصار
لانت لهم حتى انتشوا فتمكنت منهم فصاحت فيهم بالثار
وهذا مبني على أنها خمر في الحقيقة، وجوز أن تكون ماء فيه لذة الخمر ونشأته، فالوصف بذلك ظاهر، وتفيد الآية وصف مائهم باللذة والنشأة، وما ذكر أولا هو الظاهر، نعم قال غير واحد: لا اشتراك بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا بالأسماء، فحقيقة خمر الجنة غير حقيقة خمر الدنيا وكذا سائر ما فيهما