قال قائل منهم في تضاعيف محاورتهم إني كان لي في الدنيا قرين مصاحب يقول لي على طريق التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث المفضي إلى ما أنا عليه اليوم أإنك لمن المصدقين أي بالبعث كما ينبئ عنه قوله سبحانه أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون أي لمبعوثون ومجازون من الدين بمعنى الجزاء وقيل لمسوسون مربوبون من ذاته إذا ساسه ومنه الحديث "العاقل من دان نفسه" .
وقرئ "المصدقين" بتشديد الصاد من التصدق واعترضت هذه القراءة بأن الكلام عليها لا يلائم قوله سبحانه أإذا متنا إلخ، وتعقب بأن فيه غفلة عن سبب النزول، أخرج عبد الرزاق عن وابن المنذر عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكان وكان لهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها، فعمد أكبرهما فاشترى بألف دينار أرضا فقال صاحبه: اللهم إن فلانا اشترى بألف دينار أرضا وإني أشتري منك بألف دينار أرضا في الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم ابتنى صاحبه دارا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا قد ابتنى دارا بألف دينار وإني أشتري منك في الجنة دارا بألف دينار، فتصدق بألف دينار، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار، ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني أشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي هذا لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه وأهله فقام إليه فنظر الآخر فعرفه فقال: فلان؟ قال: نعم، فقال: ما شأنك؟ فقال: أصابتني بعدك حاجة فأتيتك لتصيبني بخير، قال: فما فعلت بمالك؟ فقص عليه القصة فقال: أإنك لمن المصدقين بهذا، اذهب فوالله لا أعطيك شيئا! فرده فقضى لهما أن توفيا فكان مال المتصدق الجنة ومال الآخر النار، وفيهما نزلت الآية، وقيل هما أخوان ورثا ثمانية آلاف دينار واقتسماها، فكان من خبرهما ما كان، وكان الاثنان من بني إسرائيل، وهذا السبب يدل على أن أحدهما كان مصدقا ومتصدقا أيضا، والآخر - وهو القرين - أنكر عليه أنه أنفق ليجازى على إنفاقه بما هو أعظم وأبقى، فقد ضيع - بزعمه - ماله فيما لا أصل له وهو الجزاء الأخروي ولا يكون هذا بدون البعث فلذا أنكره، وليت شعري كيف يتوهم عدم الملاءمة مع قوله تعالى أإنا لمدينون ولعله أنسب بتلك القراءة، وحاصل المعنى أنت المتصدق طلبا للجزاء في الآخرة فهل نحن بعد ما نفنى نبعث ونجازى، وذكر العظام مع التراب مع أن ذكر التراب يكفي ويغني عن ذلك؛ لتصوير حال ما يشاهده ذلك الشخص من الأجساد البالية من مصير اللحم وغيره ترابا عليه عظام نخرة ليذكره ويخطر بباله ما ينافي مدعاه، وكونه للتنزل في الإنكار أو للتأكيد لا يرجحه بل يجوزه.