وقوله تعالى: وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا التفات إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب، وسقوطهم عن درجة الخطاب، واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم، وتحكى لآخرين جناياتهم، واستظهر أن المراد بالجنة الشياطين وأريد بالنسب المجعول المصاهرة.
أخرج آدم بن أبي إياس، ، وعبد بن حميد وغيرهم عن وابن جرير، قال: قال كفار مجاهد قريش : الملائكة بنات الله تعالى، فقال لهم رضي الله تعالى عنه، أي على سبيل التبكيت: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: بنات سروات الجن، وروى هذا أبو بكر الصديق عن عطية، أو أريد جعلوا بينه سبحانه وبينهم مناسبة، حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة، وروي هذا عن ابن أبي حاتم ، وقيل: إن قوما من الزنادقة يقولون: الله - عز وجل - وإبليس عليه اللعنة أخوان، فالله تعالى هو الخير الكريم، وإبليس هو الشرير اللئيم، وهو المراد بقوله سبحانه: (وجعلوا)... إلخ، وحكى هذا الحسن الطبرسي عن ، وقال الإمام الكلبي وهذا القول عندي أقرب الأقاويل، وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن، ويعبرون عنهما بالنور والظلمة، ويبعد هذا القول عندي أن الظاهر أن ضمير (جعلوا) كالضمائر السابقة الرازي: لقريش ، ولم يشتهر ذلك عنهم، بل ولا عن قبيلة من قبائل العرب ، وليس المقام للرد على الكفرة مطلقا.
وأخرج غير واحد عن ، مجاهد عن وعبد بن حميد، عكرمة، عن وابن أبي شيبة أبي صالح: أن المراد بالجنة الملائكة، وحكاه في مجمع البيان عن ، واختاره قتادة ، والمراد بالجعل المذكور ما تضمنه قولهم: الملائكة بنات الله، وأعيد تمهيدا لما يعقبه، وهو مبني على أن الجن والملك جنس واحد مخلوقون من عنصر واحد، وهو النار، لكن من كان من كثيفها الدخاني فهو شيطان، وهو شر وتمرد، ومن كان من صافي نورها فهو ملك، وهو خير كله، ووجه التسمية بالجن الاستتار عن عيوننا، فالجن والجنة بمعنى مفعول من جنه إذا ستره، ويكون على هذا تخصيص الجن بأحد نوعيه تخصيصا طارئا كتخصيص الدابة، وعلى الأصل جاء ما هنا، ونقل عن الجبائي رضي الله تعالى عنهما أن نوعا من الملائكة - عليهم السلام - يسمى الجن ومنهم إبليس، وعبر عن الملائكة بالجنة حطا لهم مع عظم شأنهم في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم في قولهم ذلك، وقد يقال: إن الاستتار كالداعي لهم إلى ذلك الزعم الباطل بناء على توهمهم بأنه إنما يليق بالإناث، فقالوا: لو لم يكونوا بناته - سبحانه وتعالى - لما سترهم عن العيون، فلذا عبر عنهم بالجنة، ابن عباس ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون أي والله لقد علمت الشياطين أي جنسهم أن الله تعالى يحضرهم ولا بد النار ويعذبهم بها، ولو كانوا مناسبين له تعالى، أو [ ص: 152 ] شركاء في استحقاق العبادة أو التصرف لما عذبهم سبحانه، فضمير (إنهم) للجنة على ما عدا الوجه الأخير من الأوجه السابقة، وأما عليه، فهو للكفرة، أي والله لقد علمت الملائكة الذين جعلوا بينه تعالى وبينهم نسبا، وقالوا: هم بناته أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم في قولهم ذلك، والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذين يدعي لهم هؤلاء تلك النسبة، ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك، ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكما مؤكدا، ويجوز على الوجه الأول عود الضمير على الكفرة أيضا، والمعنى على نحو ما ذكر، وعلم الملائكة أن الكفرة معذبون ظاهر، وعلم الشياطين بأنهم أنفسهم، وكذا سائر الكفرة معذبون لما أن الله - عز وجل - توعد إبليس عليه اللعنة بما يدل على ذلك.