والحق أنه تخريج لا يعول عليه، ففي الكشف: لما كان قوله تعالى: لله الدين الخالص بمنزلة التعليل لقوله سبحانه: فاعبد الله مخلصا كان الأصل أن يقال: فلله الدين الخالص، ثم ترك إلى: ألا لله الدين الخالص مبالغة لما عرفت من أنه أقوى الوصلين، ثم صدر بحرف التنبيه زيادة على زيادة وتحقيقا بأن غير الخالص كالعدم، فلو قدر الاستئناف التعليلي أولا من دون الوصف المطلوب الذي هو الأصل في العلة، ومن دون حرف التنبيه للفائدة المذكورة، كان كلاما متنافرا، ويلزم زيادة التنافر من وصف الدين بالخلوص ثانيا لدلالته على العي في الأول، إذ ليس فيه ما يرشد إلى هذا الوصف حتى يجعل من باب الإجمال والتفصيل، وأما جعله تأكيدا فلا وجه له للوصف المذكور، ولأن حرف التنبيه لا يحسن موقعها حينئذ، فإنها يؤتى بها في ابتداء الاستئناف المضاد لقصد التأكيد اهـ.
ونص العلامة الثاني أيضا على أن كون الجملة الثانية تأكيدا للأولى فاسد عند من له معرفة بأساليب الكلام وصياغات المعاني، ففيها ما ينبو عنه مقام التأكيد، ولا يكاد يقترن به المؤكد، لكن في قول صاحب الكشف: ليس في الأول ما يرشد إلى وصف الخلوص حتى يجعل من باب الإجمال والتفصيل بحثا إذ لقائل أن يقول: إن له الدين على معنى الدين الكامل، ومن المعلوم أن كمال الدين بكونه خالصا، فيكون في الأول ما يرشد إلى هذا الوصف، نعم، وهن ذلك التخريج على حاله قبل هذا البحث أم لم يقبل.
وقال : الدين مرفوع على أنه فاعل (بمخلصا) الواقع حالا، والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين، أي الدين منك أو تكون أل عوضا من الضمير أي دينك، وعليه يكون وصف الدين بالإخلاص، وهو وصف صاحبه من باب الإسناد المجازي، كقولهم: شعر شاعر، وفي الآية دلالة على شرف الإخلاص بالعبادة، وكم من آية تدل على ذلك. أبو حيان
وأخرج عن ابن مردويه، يزيد الرقاشي أن رجلا قال: يا رسول الله، إنا نعطي أموالنا التماس الأجر والذكر، فهل لنا من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، قال: يا رسول الله، إنا نعطي التماس الذكر، فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لا يقبل إلا من أخلص له"، ثم تلا رسول الله - عليه الصلاة والسلام - [ ص: 235 ] هذه الآية: ألا لله الدين الخالص
ويؤيد هذا أن المراد بالدين في الآية الطاعة لا كما روي عن من أنه شهادة أن لا إله إلا الله، وعن قتادة من أنه الإسلام، وقوله تعالى: الحسن والذين اتخذوا من دونه أولياء إلخ، تحقيق لحقية التوحيد ببطلان الشرك ليعلم منه حقية الإخلاص وبطلان تركه، وفيه من ترغيب المخلصين وترهيب غيرهم ما لا يخفى، والموصول عبارة عن المشركين من قريش وغيرهم كما روي عن ، وأخرج مجاهد جويبر، عن أن الآية نزلت في ثلاثة أحياء ابن عباس عامر، وكنانة، وبني سلمة كانوا يعبدون الأوثان، ويقولون: الملائكة بنات الله، فالموصول إما عبارة عنهم، أو عبارة عما يعمهم، وأضرابهم من عبدة غير الله سبحانه، وهو الظاهر، فيكون الأولياء عبارة عن كل معبود باطل، كالملائكة وعيسى - عليهم السلام - والأصنام، ومحل الموصول رفع على الابتداء خبره الجملة الآتية المصدرة بأن، وقوله تعالى: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى حال بتقدير القول من واو اتخذوا مبينة لكيفية إشراكهم وعدم خلوص دينهم، أي اتخذوا قائلين ذلك، وجوز أن يكون القول المقدر: قالوا، ويكون بدلا من اتخذوا وأن يكون المقدر ذلك، ويكون هو الخبر للموصول، والجملة الآتية استئناف بياني، كأنه قيل بعد حكاية ما ذكر: فماذا يفعل الله تعالى بهم؟ فقيل: إن الله يحكم بينهم إلخ، والوجه الأول هو المنساق إلى الذهن، نعم قرأ عبد الله، ، وابن عباس ، ومجاهد قالوا: وابن جبير ما نعبدهم الآية لكن لا يتعين فيه البدلية أو الخبرية، وقد اعترض البدلية صاحب الكشف، بأن المقام ليس مقام الإبدال إذ ليس فيه إعادة الحكم لكون الأول غير واف بالغرض اعتناء بشأنه، لا سيما وحذف البدل ضعيف، بل ينافي في الغرض من الإتيان به، والاستثناء مفرغ من أعم العلل، " وزلفى " مصدر مؤكد على غير لفظ المصدر، أي والذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى بل شابوها بعبادة غيره سبحانه قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء، إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريبا.
وقرئ "نعبدهم" بضم النون إتباعا لحركة الباء، إن الله يحكم بينهم أي وبين خصمائهم الذين هم المخلصون للدين، وقد حذف لدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى: لا نفرق بين أحد من رسله ، على أحد الوجهين، أي بين أحد منهم، وبين غيره، وعليه قول النابغة:
فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل
أي بين الخير وبيني، وقيل: الضمير للفريقين المتخذين، وكذا الكلام في ضميري الجمع في قوله تعالى: في ما هم فيه يختلفون والمعنى على الأول أنه تعالى يفصل الخصومة بين المشركين والمخلصين فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك، وادعى كل صحة ما اتصف به، بإدخال المخلصين الموحدين الجنة وإدخال المشركين النار أو يميزهم سبحانه تمييزا يعلم منه حال ما تنازعوا فيه بذلك، والمعنى على الثاني أنه تعالى يحكم بين العابدين والمعبودين فيما يختلفون حيث يرجو العابدون شفاعتهم، وهم يتبرؤون منهم، ويلعنونهم، قالا أو حالا بإدخال من له أهلية دخول الجنة من المعبودين الجنة، وإدخال العابدين، ومن ليس له أهلية دخول الجنة ممن عبد كالأصنام النار، وإدخال الأصنام النار ليس لتعذيبها بل لتعذيب عبدتها بها، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يضعفه.
وأجاز كون الموصول السابق عبارة عن المعبودين على حذف العائد إليه وإضمار المشركين من [ ص: 236 ] غير ذكر تعويلا على دلالة السياق عليهم، ويكون التقدير: والذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله زلفى، إن الله يحكم بينهم وبين عبدتهم فيما الفريقان فيه يختلفون، حيث يرجو العبدة شفاعتهم، وهم يلعنوهم بإدخال ما هو منهم أهل للجنة الجنة وإدخال العبدة مع أصنامهم النار. وتعقب بأنه بعد الإغضاء عما فيه من التعسفات بمعزل من السداد، كيف لا، وليس فيما ذكر من طلب الشفاعة واللعن مادة يختلف فيها الفريقان اختلافا محوجا إلى الحكم والفصل، فإنما ذاك ما بين فريقي الموحدين والمشركين في الدنيا من الاختلاف في الدين الباقي إلى يوم القيامة فتدبر ولا تغفل. الزمخشري
وقرئ: "ما نعبدكم إلا لتقربونا" حكاية لما خاطبوا به آلهتهم إن الله لا يهدي أي لا يوفق للاهتداء الذي هو طريق النجاة عن المكروه والفوز بالمطلوب من هو كاذب كفار في حد ذاته وموجب سيئ استعداده، لأنه غير قابل للاهتداء، والله - عز وجل - لا يفيض على القوابل إلا حسب القابليات كما يشير إليه قوله سبحانه: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وقوله تعالى: قل كل يعمل على شاكلته ، وقوله عز وجل: وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، وهذا هو الذي حتم عليه جل شأنه لسيئ استعداده بالموافاة على الضلال، قاله بعض الأجلة، وقال الطبرسي : لا يهدي إلى الجنة أي يوم القيامة من هو كاذب كفار في الدنيا.
وقال : المراد لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره، وهذا ليس بشيء أصلا، والمراد ممن هو كاذب كفار قيل: من يعم أولئك المحدث عنهم وغيرهم، وقيل: أولئك المحدث عنهم وكذبهم في دعواهم استحقاق غير الله تعالى للعبادة، أو قولهم في بعض من اتخذوهم أولياء من دون الله: إنهم بنات الله سبحانه، أو أن المتخذ ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فمن هو كاذب من الظاهر الذي أقيم مقام المضمر على معنى أن الله تعالى لا يهديهم أي المتخذين تسجيلا عليهم بالكذب والكفر، وجعل تمهيدا لما بعده، وقال بعضهم: الجملة تعليل للحكم. ابن عطية
وقرأ أنس بن مالك، والجحدري ، ، والحسن ، والأعرج "كذاب كفار"، وقرأ وابن يعمر "كذوب كفور"، وحملوا الكاذب هنا على الراسخ في الكذب لهاتين القراءتين، وكذا حملوا الكفر على كفر النعم دون الكفر في الاعتقاد لقراءة زيد، وذكر الإمام فيه احتمالين. زيد بن علي