ثم إنكم على تغليب المخاطب على الغيب. يوم القيامة عند ربكم أي مالك أموركم، تختصمون فتحتج أنت عليهم بأنك بلغتهم ما أرسلت به، من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات، واجتهدت في دعوتهم إلى الحق حق الاجتهاد، وهم قد لجوا في المكابرة، والعناد، ويعتذرون بالأباطيل مثل: أطعنا سادتنا ، و وجدنا آباءنا ، و غلبت علينا شقوتنا ، والجمع بين يوم القيامة عند ربكم لزيادة التهويل ببيان أن اختصامهم ذلك في يوم عظيم عند مالك لأمورهم، نافذ حكمه فيهم، ولو اكتفى بالأول لاحتمل وقوع الاختصام فيما بينهم بدون مرافعة وبمرافعة، لكن ليست لدى مالك لأمورهم، والاكتفاء بالثاني على تسليم فهم كون ذلك يوم القيامة معه بدون احتمال لا يقوم مقام ذكرهما لما في التصريح بما هو كالعلم من التهويل ما فيه، وقال جمع: المراد بذلك الاختصام العام فيما جرى في الدنيا بين الأنام لا خصوص الاختصام بينه - عليه الصلاة والسلام - وبين الكفرة الطغام، وفي الآثار ما يأبى الخصوص المذكور.
أخرج عبد الرزاق، ، وعبد بن حميد وابن جرير، عن وابن عساكر، قال: نزلت هذه الآية: إبراهيم النخعي إنك ميت إلخ، فقالوا: وما خصومتنا، ونحن إخوان فلما قتل قالوا: هذه خصومة ما بيننا، وأخرج عثمان بن عفان، عن سعيد بن منصور، قال: لما نزلت: أبي سعيد الخدري ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، فلما كان يوم صفين، وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم، هو هذا.
وأخرج ، عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن وابن مردويه، رضي الله تعالى عنهما قال: لقد لبثنا برهة من دهرنا، ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا، وفي أهل الكتابين من قبل، ابن عمر إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ، قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد، وكتابنا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا، وفي رواية أخرى عنه بلفظ: نزلت علينا الآية: ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون وما ندري فيم نزلت؟ قلنا: ليس بيننا خصومة فما التخاصم حتى وقعت الفتنة، فقلت: هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه.
وأخرج أحمد، وعبد الرزاق، ، وعبد بن حميد وصححه، والترمذي ، وابن أبي حاتم ، وصححه، والحاكم وابن مردويه، في الحلية، وأبو نعيم في البعث والنشور، والبيهقي الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: (لما نزلت: إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلت: يا رسول الله، أينكر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: نعم، ينكر ذلك عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه، قال فوالله إن الأمر لشديد). الزبير: عن
وزعم أن الوجه الذي يدل عليه كلام الله تعالى هو ما ذكر أولا، واستشهد بقوله تعالى: الزمخشري فمن أظلم إلخ، وبقوله سبحانه: والذي جاء بالصدق إلخ، لدلالتهما على أنهما اللذان تكون الخصومة بينهما، وكذلك ما سبق من قوله تعالى: ضرب الله مثلا رجلا إلخ. وتعقب ذلك في الكشف، فقال: أقول: قد نقل عن جلة الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنهم فهموا الوجه الثاني، أي العموم بل ظاهر قول [ ص: 265 ] قالت الصحابة: ما خصومتنا، ونحن إخوان؟ يدل على أنه قول الكل، فالوجه إيثار ذلك. النخعي
وتحقيقه أن قوله تعالى: ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن كلام مع الأمة كلهم موحدهم ومشركهم، وكذلك قوله تعالى: ضرب الله مثلا رجلا، ورجلا بل أكثرهم دون بل، هم كالنص على ذلك، فإذا قيل: إنك ميت وجب أن يكون على نحو: يا أيها النبي إذا طلقتم ، أي إنكم أيها النبي والمؤمنون، وأبهم ليعم القبيلين، ولا يتنافر النظم، فقد روعي من مفتتح السورة إلى هذا المقام التقابل بين الفريقين لا بينه - عليه الصلاة والسلام - وحده وبين الكفار، ثم إذا قيل: ثم إنكم على التغليب يكون تغليبا للمخاطبين على جميع الناس، فهذا من حيث اللفظ والمساق الظاهر، ثم إذا كان الموت أمرا عمه والناس جميعا، كان المعنى عليه أيضا، وأما حديث الاختصام، والطباق الذي ذكره فليس بشيء، لأنه لعمومه يشمله شمولا أوليا، كما حقق هذا المعنى مرارا. والتعقيب بقوله تعالى: فمن أظلم التنبيه على أنه مصب الغرض، وأن المقصود التسلق إلى تلك الخصومة، ولا أنكر أن قوله تعالى: عند ربكم يدل على أن الاختصام يوم القيامة، ولكن أنكر أن يختص باختصام النبي صلى الله عليه وسلم وحده والمشركين، بل يتناوله أولا، وكذلك اختصام المؤمنين والمشركين، واختصام المؤمنين بعضهم مع بعض كاختصام رضي الله تعالى عنه يوم القيامة وقاتليه، وهذا ما ذهب إليه هؤلاء، وهم هم رضي الله تعالى عنهم، انتهى، وكأنه عنى بقوله، ولا أنكر إلخ، رد ما يقال: إن عثمان عند ربكم يدل على أن الاختصام يوم القيامة، وقد صرح في النظم الجليل بذلك، فيكون تأكيدا مشعرا بالاهتمام بأمر ذلك الاختصام، فليس هو إلا اختصام حبيبه صلى الله عليه وسلم مع أعدائه الطغام، ووجه الرد أنه إن سلم أن فائدة الجمع ما ذكر فلا نسلم استدعاء ذلك لاعتبار الخصوص، بل يكفي للاهتمام دخول اختصام الحبيب مع أعدائه - عليه الصلاة والسلام - فتأمله، ثم أنت تعلم أنه لو لم يكن في هذا المقام سوى الحديث الصحيح المرفوع لكفى في كون المراد عموم الاختصام، فالحق القول بعمومه، وهو أنواع شتى، فقد أخرج ، عن ابن جرير أنه قال في الآية: يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال، والضعيف المستكبر. ابن عباس
وأخرج ، الطبراني بسند لا بأس به، عن وابن مردويه أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وإن منكم إلا واردها "أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته، والله ما يتكلم لسانها، ولكن يداها ورجلاها يشهدان عليها بما كان لزوجها، وتشهد يداه ورجلاه بما كان لها، ثم يدعي الرجل وخادمه بمثل ذلك، ثم يدعي أهل الأسواق، وما يوجد ثم دانق، ولا قراريط، ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلمه، وسيئات هذا الذي ظلمه توضع عليه، ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد، فيقال: أوردوهم إلى النار، فوالله ما أدري يدخلونها، أو كما قال الله:
وأخرج عن البزار، قال: أنس "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بالأمير الجائر فتخاصمه الرعية".
وأخرج أحمد، بسند حسن، عن والطبراني عقبة بن عامر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول خصمين يوم القيامة جاران".
ولعل الأولية إضافية لحديث أبي أيوب السابق.
وجاء عن اختصام الروح مع الجسد أيضا، بل أخرج ابن عباس بسند حسن عن أحمد قال: أبي هريرة . "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليختصمن يوم القيامة كل شيء حتى الشاتان فيما انتطحا"
"تم الجزء الثالث والعشرون، ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع والعشرون، وأوله: فمن أظلم .