ويهتز للمعروف في طلب العلا لتذكر يوما عند سلمى شمائله
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه قيل : فائدة الإخبار بذلك تعليم أهل المحبة أن يتركوا ما حبب إليهم من الأطعمة الشهية واللذائذ الدنيوية رغبة فيما عند الله تعالى .
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة وهو الكعبة التي هي من أعظم المظاهر له تعالى حتى قالوا : إنها للمحمديين كالشجرة لموسى عليه السلام ( مباركا ) بما كساه من أنوار ذاته ( وهدى ) بما كساه من أنوار صفاته ( للعالمين ) على حسب استعدادهم فيه آيات بينات مقام إبراهيم المشتمل على الرضا والتسليم والانبساط واليقين والمكاشفة والمشاهدة والخلة والفتوة ، أو المعرفة والتوحيد والفناء والبقاء والسكر والصحو ، أو جميع ذلك .
ومن دخله كان آمنا من غوائل نفسه لأنه مقام التمكين ( وتطبيق ذلك على ما في الأنفس ) أن البيت إشارة إلى القلب الحقيقي ، ويحمل ما ورد أن البيت أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، وخلق قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته على ذلك ، وظهوره على الماء حينئذ تعلقه بالنطفة عند خلق سماء الروح الحيوان وأرض البدن ، وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه وحدوث البدن ، وتقييد ذلك بألفي عام إشارة إلى تقدمه على البدن بطورين طور النفس وطور القلب تقدما بالرتبة ، إذ الألف رتبة تامة ، وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره ، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكون البدن من تأثيره ، وكون أشكاله وصور أعضائه تابعة لهيئاته ، ولا يخفى أن محل تعلق الروح بالبدن واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصنوبري وهو أول ما يتكون من الأعضاء ، وأول عضو يتحرك ، وآخر عضو يسكن ، فيكون [ ص: 31 ] أول بيت وضع للناس للذي ببكة الصدر صورة ، أو أول متعبد وضع لهم للقلب الحقيقي الذي هو ببكة الصدر المعنوي الذي هو أشرف مقام في النفس وموضع ازدحام القوى إليه ، ومعنى كونه ( مباركا ) أنه ذو بركة إلهية بسبب فيض الخير عليه ، وكونه ( هدى ) أنه يهتدى به إلى الله تعالى –والآيات - التي فيه هي العلوم والمعارف والحكم والحقائق ، و مقام إبراهيم إشارة إلى العقل الذي هو مقام قدم إبراهيم الروح يعني محل اتصال نوره من القلب ، ولا شك أن من دخل ذلك ( كان آمنا ) من أعداء سعالى المتخيلة وعفاريت أحاديث النفس واختطاف شياطين الوهم وجن الخيالات واغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها .
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وهم أهل معرفته عز شأنه ، وأما الجاهلون به فلا قاموا ولا قعدوا ، يحكى عن بعضهم أنه قال : قلت للشبلي : إني حججت فقال : كيف فعلت ؟ فقلت : اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت ، فقال لي : عقدت به الحج ؟ فقلت : نعم . قال : فسخت بعقدك كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد ؟ قلت : لا . قال : فما عقدت ، ثم قال : نزعت ثيابك ؟ قلت : نعم . قال : تجردت عن كل فعل فعلت ؟ قلت : لا . قال : ما نزعت ، فقال : تطهرت ؟ قال : نعم . قال : أزلت عنك كل علة ؟ فقلت : لا ، قال : فما تطهرت ، قال : لبيت ؟ قلت : نعم . قال : وجدت جواب التلبية مثلا بمثل ؟ قلت : لا . قال : ما لبيت ، قال : دخلت الحرم ؟ قلت : نعم . قال : اعتقدت بدخولك ترك كل محرم ؟ قلت : لا . قال : ما دخلت ، قال : أشرفت على مكة ؟ قلت : نعم . قال : أشرف عليك حال من الله تعالى ؟ قلت : لا . قال : ما أشرفت . قال : دخلت المسجد الحرام ؟ قلت : نعم . قال : دخلت الحضرة ؟ قلت : لا . قال : ما دخلت المسجد الحرام ، قال : رأيت الكعبة ؟ قلت : نعم ، قال : رأيت ما قصدت له ؟ قلت : لا ، قال : ما رأيت الكعبة ، قال : رملت وسعيت ؟ قلت : نعم ، قال : هربت من الدنيا ووجدت أمنا مما هربت ؟ قلت : لا ، قال : ما فعلت شيئا ، قال : صافحت الحجر ؟ قلت : نعم ، قال : من صافح الحجر فقد صافح الحق ، ومن صافح الحق ظهر عليه أثر الأمن أفظهر عليك ذلك ؟ قلت : لا ، قال : ما صافحت ، قال : أصليت ركعتين بعد ؟ قلت : نعم ، قال : أوجدت نفسك بين يدي الله تعالى ؟ قلت : لا ، قال : ما صليت ، قال : خرجت إلى الصفا ؟ قلت : نعم ، قال : أكبرت ؟ قلت : نعم . فقال : أصفا سرك وصغرت في عينك الأكوان ؟ قلت : لا ، قال : ما خرجت ولا كبرت ، قال : هرولت في سعيك ؟ قلت : نعم ، قال : هربت منه إليه ؟ قلت : لا ، قال : ما هرولت ، قال : وقفت على المروة ؟ قلت : نعم ، قال : رأيت نزول السكينة عليك وأنت عليها ؟ قلت : لا ، قال : ما وقفت على المروة ، قال : خرجت إلى منى؟ قلت : نعم ، قال : أعطيت ما تمنيت ؟ قلت : لا ، قال : ما خرجت ، قال : دخلت مسجد الخيف ؟ قلت : نعم ، قال : تجدد لك خوف ؟ قلت : لا ، قال : ما دخلت ، قال : مضيت إلى عرفات ؟ قلت : نعم ، قال : عرفت الحال الذي خلقت له والحال الذي تصير إليه ؟ وهل عرفت من ربك ما كنت منكرا له ؟ وهل تعرف الحق إليك بشيء ؟ قلت : لا ، قال : ما مضيت ، قال : نفرت إلى المشعر الحرام ؟ قلت : نعم ، قال : ذكرت الله تعالى فيه ذكرا أنساك ذكر ما سواه ؟ قلت : لا ، قال : ما نفرت ، قال : ذبحت ؟ قلت : نعم ، قال : أفنيت شهواتك وإراداتك في رضاء الحق ؟ قلت : لا ، قال : ما ذبحت ، قال : رميت ؟ قلت : نعم ، قال : رميت جهلك منك بزيادة علم ظهر عليك ؟ قلت : لا ، قال : ما رميت ، قال : زرت ؟ قلت : نعم ، قال : كوشفت عن الحقائق ؟ قلت : لا ، قال : ما زرت ، قال : أحللت ؟ قلت : نعم ، قال : عزمت على الأكل من الحلال قدر ما تحفظ به نفسك؟ قلت : لا . قال : ما أحللت ، قال : ودعت ؟ قلت : نعم ، قال : خرجت من نفسك وروحك بالكلية ؟ قلت : لا ، قال : ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك انتهى . [ ص: 32 ] فهذا الذي ذكره الشبلي هو الحج الذي يستأهل أن يقال له حج ، ولله تعالى عباد أهلهم لذلك وأقدرهم على السلوك في هاتيك المسالك فحجهم في الحقيقة منه إليه وله فيه ، فمطافهم حظائر القرية على بساط الحشمة وموقفهم عرفة العرفان على ساق الخدمة ، ليس لهم غرض في الجدران والأحجار ، وهيهات هيهات ما غرض المجنون من الديار إلا الديار ، ومن كفر وأعرض عن المولى بهوى النفس ، فإن الله غني عن العالمين فهو سبحانه غني عنه لا يلتفت إليه .
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله الدالة على توحيده والله شهيد على ما تعملون إذ هو أقرب من حبل الوريد قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله بالإنكار على المؤمنين من آمن تبغونها عوجا بإيراد الشبه الباطلة وأنتم شهداء عالمون بأنها حق لا اعوجاج فيها وما الله بغافل عما تعملون فيجازيكم به .
يا أيها الذين آمنوا الإيمان الحقيقي إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب خوفا من إنكارهم ما أنتم عليه من الحقيقة والطريق الموصل إليه سبحانه يردوكم بعد إيمانكم الراسخ فيكم كافرين لأن إنكار الحقيقة كفر كإنكار الشريعة ، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم أي من يعتصم به منه فقد اهتدى إليه به ، قال الواسطي : ومن زعم أنه يعتصم به من غيره فقد جهل عظمة الربوبية ، وحقيقة الاعتصام عند بعضهم انجذاب القلب عن الأسباب التي هي الأصنام المعنوية والتبري إلى الله تعالى من الحول والقوة ، وقيل : الاعتصام للمحبين هو اللجأ بطرح السوي ، ولأهل الحقائق رفع الاعتصام لمشاهدتهم أنهم في القبضة .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته بصون العهود وحفظ الحدود والخمود تحت جريان القضاء بنعت الرضا ، وقيل : حق التقوى عدم رؤية التقوى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي لا تموتن إلا على حال إسلام الوجود له أي ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد .
واعتصموا بحبل الله جميعا وهو عهده الذي أخذه على العباد يوم ألست بربكم ، ولا تفرقوا باختلاف الأهواء واذكروا نعمة الله عليكم بالهداية إلى معالم التوحيد المفيد للمحبة في القلوب إذ كنتم أعداء لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية فألف بين قلوبكم بالتحاب في الله تعالى لتنورها بنوره فأصبحتم بنعمته عليكم إخوانا في الدين وكنتم على شفا حفرة من النار وهي مهوى الطبيعة الفاسقة وجهنم الحرمان فأنقذكم منها بالتواصل الحقيقي بينكم إلى سدرة مقام الروح وروح جنة الذات .
ولتكن منكم أمة كالعلماء العارفين أرباب الاستقامة في الدين يدعون إلى الخير أي يرشدون الناس إلى الكمال المطلق من معرفة الحق تعالى والوصول إليه ويأمرون بالمعروف المقرب إلى الله تعالى وينهون عن المنكر المبعد عنه تعالى وأولئك هم المفلحون الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله تعالى في أرضه .
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واتبعوا الأهواء والبدع واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات الحجج العقلية والشرعية الموجبة للاتحاد واتفاق الكلمة وأولئك لهم عذاب عظيم وهو عذاب الحرمان من الحضرة .
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه قالوا : ابيضاض الوجه عبارة عن تنور وجه القلب بنور الحق المتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة ، ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد ، واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة لحظوظها والإعراض عن الجهة العلوية النورانية .
فأما الذين اسودت وجوههم فيقال لهم أكفرتم أي احتجبتم عن الحق بصفات النفس بعد إيمانكم أي تنوركم بنور الاستعداد وصفاء الفطرة وهداية العقل فذوقوا العذاب وهو عذاب الاحتجاب عن الحق بما كنتم تكفرون به وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله الخاصة التي هي شهود الجمال هم فيها خالدون باقون بعد الفناء .
كنتم خير أمة أخرجت من مكان الأزل للناس أي لنفعهم تأمرون بالمعروف الموصل إلى مقام التوحيد وتنهون عن المنكر وهو القول بتحقق الكثرة على الحقيقة .
ولو آمن أهل الكتاب كإيمانكم [ ص: 33 ] لكان خيرا لهم مما هم عليه منهم المؤمنون كإيمانكم وأكثرهم الفاسقون الخارجون عن حرم الحق .
لن يضروكم إلا أذى وهو الإنكار عليكم بالقول وإن يقاتلوكم ولم يكتفوا بذلك الإيذاء يولوكم الأدبار ولا ينالون منكم شيئا لقوة بواطنكم وضعفهم ثم لا ينصرون لا ينصرهم أحد أصلا بل يبقون مخذولين لعدم ظهور أنوار الحق عليهم ، والله تعالى الموفق .