إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت عن الماء فاشتاقت إليها المناهل
وبعد ذلك قد لا يحتاج إلى اعتبار القلب، وقال : لا ينبغي حمل القرآن على القلب إن الصحيح فيه أنه مما يضطر إليه في الشعر، وإذا كان المعنى صحيحا واضحا بدونه فأي ضرورة تدعو إليه؟ والمثال المذكور لا قلب فيه أيضا، فإن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كل منهما صحيح إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض. أبو حيان وابن السكيت في كتاب التوسعة ذهب إلى أن عرضت الحوض على الناقة مقلوب والأصل إنما هو عرضت الناقة على الحوض وهو مخالف للمشهور. وأنت تعلم مما ذكرنا أولا أن سبب اعتبارهم القلب في المثال كون المناسب في العرض أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه وإن الأمر في عرضت الحوض على الناقة بالعكس، وتفصيل الكلام في ذلك على وجه يعرف منه منشأ الخلاف إن العرض مطلقا لا يقتضي ذلك وإنما المقتضي له المعنى المقصود من العرض في المثال وهو الميل إلى المعروض، ومن لم ينظر إلى هذا المعنى ونظر إلى أن المعرض يتحرك إلى المعروض عليه قال إنه الأصل، ومن لم ينظر إلى الاعتبارين وقال العرض إظهار شيء لشيء قال: إن كلا من القولين على الأصل، وهو كما قال العلامة السالكوتي الحق لأن كلا [ ص: 23 ] الاعتبارين خارج عن مفهوم العرض فاحفظه فإنه نفيس.
والظرف منصوب بقول محذوف مقوله قوله تعالى: أذهبتم طيباتكم إلى آخره أي فيقال لهم يوم يعرضون أذهبتم لذاتكم في حياتكم الدنيا باستيفائها واستمتعتم بها فلم يبق لكم بعد شيء منها، وهو عطف تفسير لأذهبتم، وقرأ قتادة ومجاهد وابن وثاب وأبو جعفر والحسن والأعرج (آذهبتم) بهمزة بعدها مدة مطولة، وابن كثير بهمزتين حققهما وابن عامر ابن ذكوان ولين الثانية ابن هشام . في رواية، وعن وابن كثير هشام الفصل بين المحققة والملينة بألف، والاستفهام على معنى التوبيخ فهو خبر في المعنى ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء في قوله سبحانه:
فاليوم تجزون عذاب الهون أي الهوان وكذلك قرئ بما كنتم في الدنيا تستكبرون في الأرض بغير الحق بغير استحقاق لذلك، وقد مر بيان سر ( في الأرض وبما كنتم تفسقون ) أي تخرجون من طاعة الله عز وجل أي بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين، وفي البحر أريد بالاستكبار الترفع عن الإيمان وبالفسق معاصي الجوارح وقدم ذنب القلب على ذنب الجوارح إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب، وقرئ (تفسقون) بكسر السين وهذه الآية محرضة على أخرج التقلل من الدنيا وترك التنعم فيها والأخذ بالتقشف، سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم في شعب الإيمان عن والبيهقي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه رأى في يد عمر رضي الله تعالى عنه درهما فقال ما هذا الدرهم؟ قال: أريد أن أشتري به لأهلي لحما قرموا إليه فقال أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه أين تذهب عنكم هذه الآية جابر بن عبد الله أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها .
وأخرج ابن المبارك وابن سعد في الزهد وأحمد وعبد بن حميد في الحلية عن وأبو نعيم قال: قدم وفد أهل الحسن البصرة على رضي الله تعالى عنه مع عمر فكان له في كل يوم خبز يلت فربما وافقناه مأدوما بزيت وربما وافقناه مأدوما بسمن وربما وافقناه مأدوما بلبن وربما وافقنا القدائد اليابسة قد دقت ثم أغلي عليها وربما وافقنا اللحم الغريض- أي الطري- وهو قليل قال وقال لنا أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: إني والله ما أجهل عن كراكر وأسنمة وعن صلاء وصناب وسلائق ولكن وجدت الله تعالى عير قوما بأمر فعلوه فقال عز وجل: عمر أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها والكراكر جمع كركرة بالكسرة زور البعير الذي إذا برك أصاب الأرض وهو من أطيب ما يؤكل منه والأسنمة جمع سنام معروف. والصلاء بالكسر والمد الشواء، والصناب ككتاب صباغ يتخذ من الخردل والزبيب، والسلائق جمع سليقة كسفينة ما سلق من البقول وغيرها ويروى بالصاد الخبز الرقاق واحدتها صليقة كسفينة أيضا، وقيل: هي الحملان المشوية، وقيل: اللحم المشوي المنضج وأنشدوا لجرير:
يكلفني معيشة آل زيد ومن لي بالصلائق والصناب
وأخرج ، أحمد في شعب الإيمان عن والبيهقي ثوبان رضي الله تعالى عنه قال وأول من يدخل عليه منهم بفاطمة رضي الله تعالى عنها فقدم من غزاة له فأتاها فإذا بمسح على بابها ورأى على فاطمة الحسن قلبين من فضة فرجع ولم يدخل عليها فلما رأت ذلك ظنت [ ص: 24 ] أنه لم يدخل من أجل ما رأى فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا فقسمت ذلك بينهما فانطلقا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهما يبكيان فأخذه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهما فقال: يا والحسين ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر قلادة من عصب وسوارين من عاج؛ فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا). لفاطمة (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر آخر عهده من أهله
والمسح بكسر فسكون ثوب من شعر غليظ، والقلبين تثنية قلب بضم فسكون السوار، والعصب بفتح فسكون قال الخطابي : إن لم يكن الثياب اليمانية فما أدري ما هو وما أدري أن القلائد تكون منها، ويحتمل أن الرواية بفتح الصاد وهو أطناب مفاصل الحيوان فلعلهم كانوا يتخذون من طاهره مثل الخرز.
قال ثم ذكر بعض أهل اليمن أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز البيض وغيرها، وأحاديث الزهد في طيبات الحياة الدنيا كثيرة وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك معروفة بين الأمة. وفي البحر بعد حكاية حال رضي الله تعالى عنه على نحو مما ذكرنا، قال عمر رضي الله تعالى عنهما: وهذا من باب الزهد وإلا فالآية نزلت في كفار ابن عباس قريش، والمعنى أنه كانت لكم طيبات الآخرة لو آمنتم لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان ولذلك ترتب عليه فاليوم تجزون عذاب الهون ولو أريد الظاهر ولم يكن كناية عما ذكرنا لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب،