لا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه
والقوم جماعة الرجال ولذلك قال سبحانه: ولا نساء أي ولا يسخر نساء من المؤمنات من نساء [ ص: 153 ] منهن عسى أن يكن أي المسخورات خيرا منهن أي من الساخرات، وعلى هذا جاء قول زهير :
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وهو إما مصدر كما في قول بعض العرب: إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما أي قياما نعت به فشاع في جماعة الرجال، وإما اسم جمع لقائم كصوم لصائم وزور لزائر، وأطلق عليه بعضهم الجمع مريدا به المعنى اللغوي وإلا ففعل ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات، ووجه الاختصاص بالرجال أن القيام بالأمور وظيفتهم كما قال تعالى: الرجال قوامون على النساء وقد يراد به الرجال والنساء تغليبا كما قيل في قوم عاد وقوم فرعون أن المراد بهم الذكور والإناث وقيل: المراد بهم الذكور أيضا ودل عليهن بالالتزام العادي لعدم الانفكاك عادة، والنساء على ما قال وغيره وكذا النسوان والنسوة جمع المرأة من غير لفظها، وجيء بما يدل على الجمع في الموضعين دون المفرد كأن يقال: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة مع أنه الأصل الأشمل الأعم قيل جريا على الأغلب من وقوع السخرية في مجامع الناس فكم من متلذذ بها وكم من متألم منها فجعل ذلك بمنزلة تعدد الساخر والمسخور منه، وقيل: لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين الجماعة كقوله تعالى: الراغب لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة وعموم الحكم لعموم علته، وعسى في نحو هذا التركيب من كل ما أسندت فيه إلى أن والفعل قيل تامة لا تحتاج إلى خبر وأن وما بعدها في محل رفع على الفاعلية، وقيل: إنها ناقصة وسد ما بعدها مسد الجزأين وله محلان باعتبارين أو محله الرفع، والتحكم مندفع بأنه الأصل في منصوبها بناء على أنها من نواسخ المبتدأ والخبر.
وقرأ عبد الله (عسوا أن يكونوا) . (وعسين عن أن يكن) فعسى عليها ذات خبر على المشهور من أقوال النحاة، وفيه الإخبار عن الذات بالمصدر أو يقدر مضاف مع الاسم أو الخبر، وقيل: هو في مثل ذلك بمعنى قارب وأن وما معها مفعول أو قرب وهو منصوب على إسقاط الجار وأبي ولا تلمزوا أنفسكم لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة لأن المؤمنين كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنه عاب نفسه، فضمير تلمزوا للجميع بتقدير مضاف، ( وأنفسكم ) عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون جعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم وأطلق الأنفس على الجنس استعارة كما في قوله تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم وقوله سبحانه: ولا تقتلوا أنفسكم وهذا غير النهي السابق وإن كان كل منهما مخصوصا بالمؤمنين بناء على أن السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته، واللمز التنبيه على معايبه سواء كان على مضحك أم لا؟ وسواء كان بحضرته أم لا كما قيل في تفسيره، وجعل عطفه عليه من قبيل عطف العام على الخاص لإفادة الشمول كشارب الخمر وكل فاسق مذموم، ولا يتم إلا إذا كان التنبيه المذكور احتقارا، ومنهم من يقول: السخرية الاحتقار واللمز التنبيه على المعايب أو تتبعها والعطف من قبيل عطف العلة على المعلول وقيل: اللمز مخصوص بما كان من السخرية على وجه الخفية كالإشارة فهو من قبيل عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة، واختار أن المعنى وخصوا أنفسكم أيها المؤمنون بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث الزمخشري وتعقب بأنه لا دليل على الاختصاص. (اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس)
[ ص: 154 ] وقال الطيبي: هو من دليل الخطاب لكن إن في هذا الوجه تعسفا. والوجه الآخر يعني ما تقدم أوجه لموافقته لا يسخر قوم من قوم و إنما المؤمنون إخوة و ولا يغتب بعضكم بعضا وفي الكشف أخذ الاختصاص من العدول عن الأصل وهو لا يلمز بعضكم بعضا كأنه قيل: فيكون من باب ترتب الحكم على الوصف، وتعقب قول ولا تلمزوا من هو على صفتكم من الإيمان والطاعة الطيبي بأن الكلام عليه يفيد العلية والاختصاص معا فيوافق ما سبق ويؤذن بالفرق بين السخرية واللمز وهو مطلوب في نفسه وكأنه قيل: لا تلمزوا المؤمنين لأنهم أنفسكم ولا تعسف فيه بوجه إلى آخر ما قال فليتأمل. والإنصاف أن المتبادر ما تقدم، وقيل: المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه فأنفسكم على ظاهره والتجوز في تلمزوا أطلق فيه المسبب على السبب والمراد لا ترتكبوا أمرا تعابون به، وهو بعيد عن السياق وغير مناسب لقوله تعالى: ولا تنابزوا وكونه من التجوز في الإسناد إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب تكلف ظاهر، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق لا يدفع كونه مخالفا للظاهر، وكذا كون المراد به لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم كما في الحديث (من الكبائر أن يشتم الرجل والديه).
وفسر بأنه إن شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضا.
وقرأ الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو (لا تلمزوا) بضم الميم ولا تنابزوا بالألقاب أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب، قال في القاموس: التنابز التعاير والتداعي بالألقاب ويقال نبزه ينبزه نبزا بالفتح والسكون لقبه كنبزه والنبز بالتحريك وكذا النزب اللقب وخص عرفا بما يكرهه الشخص من الألقاب.
وعن أن لفظ اللقب في القديم كان في الذم أشهر منه في المدح، والنبز في الذم خاصة، وظاهر تفسير التنابز بالتداعي بالألقاب اعتبار التجريد في الآية لئلا يستدرك ذكر الألقاب، ومن الغريب ما قيل: التنابز الترامي أي لا تتراموا بالألقاب ويراد به ما تقدم، والمنهي عنه هو التلقيب بما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به وذما له وشينا. الرضي
قال النووي: اتفق العلماء على تحريم سواء كان صفة له أو لأبيه أو لأمه أو غيرهما فقد روي أن الآية نزلت في تلقيب الإنسان بما يكره ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليسمع فأتى يوما وهو يقول: تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال لرجل: تنح فلم يفعل فقال: من هذا؟ فقال الرجل: أنا فلان فقال: بل أنت ابن فلانة يريد أما كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا.
وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وجماعة عن وابن ماجه ابن جبير وابن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة ولا تنابزوا بالألقاب قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكرهه فنزلت ولا تنابزوا بالألقاب
وأخرج عن ابن جرير أنه قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق فنهى الله تعالى أن يعير بما سلف من عمله، وعن ابن عباس هو أن يقال اليهودي أو النصراني أو المجوسي إذا أسلم يا يهودي أو يا نصراني أو يا مجوسي، وعن ابن مسعود نحوه، ولعل مأخذه ما روي أنها نزلت في الحسن أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت: إن النساء يقلن لي [ ص: 155 ] يا يهودية بنت يهوديين فقال لها: هلا قلت: إن أبي صفية بنت حيي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأنت تعلم أن النهي عما ذكر داخل في عموم ( لا تنابزوا بالألقاب ) على ما سمعت فلا يختص التنابز بقول يا يهودي ويا فاسق ونحوهما، ومعنى قوله تعالى: بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب التنابز أن يذكروا بالفسق بعد اتصافهم بالإيمان، وهو ذم على اجتماع الفسق وهو ارتكاب التنابز والإيمان على معنى لا ينبغي أن يجتمعا فإن الإيمان يأبى الفسق كقولهم: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة يريدون استقباح الجمع بين الصبوة وما يكون في حال الشباب من الميل إلى الجهل وكبر السن.
( والاسم ) هنا بمعنى الذكر من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو اللؤم فلا تأبى هذه الآية حمل ما تقدم على النهي عن التنابز مطلقا، وفيها تسميته فسوقا، وقيل: بعد الإيمان أي بدله كما في قولك للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة، وفيه تغليظ بجعل التنابز فسقا مخرجا عن الإيمان، وهذا خلاف الظاهر. وذكر له مبني على مذهبه من أن مرتكب الكبيرة فاسق غير مؤمن حقيقة، وقيل: معنى النهي السابق لا ينسبن أحدكم غيره إلى فسق كان فيه بعد اتصافه بضده، ومعنى هذا بئس تشهير الناس وذكرهم بفسق كانوا فيه بعد ما اتصفوا بضده، فيكون الكلام نهيا عن أن يقال ليهودي أسلم يا يهودي أو نحو ذلك، والأول أظهر لفظا وسياقا ومبالغة، والجملة على كل متعلقة بالنهي عن التنابز على ما هو الظاهر، وقيل: هي على الوجه السابق متعلقة بقوله تعالى: الزمخشري ولا تلمزوا أنفسكم أو بجميع ما تقدم من النهي، وعلى هذا اقتصر ابن حجر في الزواجر.
ويستثنى من النهي الأخير دعاء الرجل الرجل بلقب قبيح في نفسه لا على قصد الاستخفاف به والإيذاء له كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته كقول المحدثين: سليمان الأعمش وواصل الأحدب، وما نقل عن أنه قال ابن مسعود لعلقمة: تقول أنت ذلك يا أعور ظاهر في أن الاستثناء لا يتوقف على دعاء الضرورة ضرورة أنه لا ضرورة في حال مخاطبته لقوله يا أعور، ولعل الشهرة مع عدم التأذي وعدم قصد الاستخفاف كافية في الجواز، ويقال ما كان من علقمة من ذلك، والأولى أن يقال في الرواية عمن اشتهر بذلك كسليمان المتقدم روي عن ابن مسعود سليمان الذي يقال له ، هذا وغوير بين صيغتي ( تلمزوا وتنابزوا ) لأن الملموز قد لا يقدر في الحال على عيب يلمز به لامزه فيحتاج إلى تتبع أحواله حتى يظفر ببعض عيوبه بخلاف النبز فإن من لقب بما يكره قادر على تلقيب الآخر بنظير ذلك حالا فوقع التفاعل كذا في الزواجر، وقيل: قيل الأعمش تنابزوا لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين القوم، ويعلم من الآية أن وقد صرحوا بأن التلقيب بالألقاب الحسنة مما لا خلاف في جوازه، وقد لقب التلقيب ليس محرما على الإطلاق بل المحرم ما كان بلقب السوء، رضي الله تعالى عنه بالعتيق لقوله عليه الصلاة والسلام له: أبو بكر (أنت عتيق الله من النار) رضي الله تعالى عنه بالفاروق لظهور الإسلام يوم إسلامه، وعمر رضي الله تعالى عنه بأسد الله لما أن إسلامه كان حمية فاعتز الإسلام به، وحمزة وخالد بسيف الله لقوله صلى الله عليه وسلم: سيف من سيوف الله). خالد بن الوليد (نعم عبد الله
إلى غير ذلك من الألقاب الحسنة، وألقاب كرم الله وجهه أشهر من أن تذكر وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من علي العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير ، ولا فرق بين اللقب والكنية في أن الدعاء بالقبيح المكروه منها حرام وربما يشعر به قول اللقب اسم يسمى به الإنسان سوى اسمه الأول [ ص: 156 ] ويراعى فيها المعنى بخلاف العلم، ولذلك قال الشاعر: الراغب:
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب.
إلا ومعناه أن فتشت في لقبه بدخوله في مفهومه لكن الشائع غير ذلك، وفي الحديث ( كنوا أولادكم).
قال : مخافة الألقاب. وقال عطاء رضي الله تعالى عنه: أشيعوا الكنى فإنها سنة. ولنا في الكنى كلام نفيس ذكرناه في الطراز المذهب فمن أراده فليرجع عمر ومن لم يتب عما نهى عنه من التنابز أو من الأمور الثلاثة السابقة أو مطلقا ويدخل ما ذكر فأولئك هم الظالمون بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب، والإفراد أولا والجمع ثانيا مراعاة للفظ ومراعاة للمعنى.