سورة الحجرات
مدنية كما قال الحسن ، وقتادة وغيرهم وفي مجمع البيان عن وعكرمة إلا آية وهي قوله تعالى: ابن عباس يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ولعل من يعتبر ما أخرجه في مستدركه الحاكم في الدلائل والبيهقي في مسنده من طريق والبزار عن الأعمش عن علقمة عبد الله قال: ما كان ( يا أيها الذين آمنوا ) أنزل بالمدينة وما كان ( يا أيها الناس ) فبمكة يقول بمكية ما استثنى، والحق أن هذا ليس بمطرد. وذكر الخفاجي أنها في قول شاذ مكية، وهي ثماني عشرة آية بالإجماع، ولا يخفى تواخيها مع ما قبلها لكونهما مدنيتين ومشتملتين على أحكام وتلك فيها قتال الكفار وهذه فيها قتال البغاة، وتلك ختمت بالذين آمنوا وهذه افتتحت بالذين آمنوا، وتلك تضمنت تشريفات له صلى الله تعالى عليه وسلم خصوصا مطلعها وهذه أيضا في مطلعها أنواع من التشريف له عليه الصلاة والسلام، وفي البحر مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر لأنه عز وجل ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه ثم قال سبحانه وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلخ فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه فقال جل وعلا تعليما للمؤمنين وتهذيبا لهم.
بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله وتصدير الخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما في حيزه أمر خطير يستدعي مزيد اعتنائهم وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع للمحافظة عليه ورادع عن الإخلال به.
و ( تقدموا ) من قدم المتعدي، ومعناه جعل الشيء قادما أي متقدما على غيره، وكان مقتضاه أن يتعدى إلى مفعولين لكن الأكثر في الاستعمال تعديته إلى الثاني بعلى تقول: قدمت فلانا على فلان، وهو هنا محتمل احتمالين:
الأول أن يكون مفعوله نسيا والقصد فيه إلى نفس الفعل وهو التقديم من غير اعتبار تعلقه بأمر من الأمور ولا نظر إلى أن المقدم ماذا هو على طريقة قوله تعالى: هو الذي يحيي ويميت وقولهم: يعطي ويمنع، فالمعنى لا تفعلوا التقديم ولا تتلبسوا به ولا تجعلوه منكم بسبيل. والثاني أن يكون قد حذف مفعوله قصدا إلى تعميمه لأنه لاحتماله لأمور لو قدر أحدها كان ترجيحا بلا مرجح يقدر أمرا عاما لأنه أفيد مع الاختصار، فالمعنى لا تقدموا أمرا من الأمور، والأول قيل أوفى بحق المقام لإفادته النهي عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهاني، ورجح الثاني بأنه أكثر استعمالا، وبأن في الأول تنزيل المتعدي منزلة اللازم وهو خلاف الأصل والثاني سالم منه، والحذف وإن كان خلاف الأصل أيضا أهون من التنزيل المذكور لكثرته بالنسبة إليه، وبعضهم لم يفرق بينهما لتعارض الترجيح عنده وكون مآل المعنى عليهما العموم المناسب للمقام، وذكر أن في الكلام تجوزين، أحدهما في [ ص: 132 ] (بين) إلخ فإن حقيقة قولهم بين يدي فلان ما بين العضوين فتجوز بذلك عن الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما فهو من المجاز المرسل. ثانيهما استعارة الجملة وهي التقدم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته تصويرا لهجنته وشناعته بصورة المحسوس فيما نهوا عنه كتقدم الخادم بين يدي سيده في سيره حيث لا مصلحة، فالمراد من لا تقدموا بين يدي الله ورسوله لا تقطعوا أمرا وتجزموا به وتجترؤوا على ارتكابه قبل أن يحكم الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ويأذنا فيه، وحاصله النهي عن الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة.
وجوز أن يكون ( تقدموا ) من قدم اللازم بمعنى تقدم كوجه وبين، ومنه مقدمة الجيش خلاف ساقته وهي الجماعة المتقدمة منه، ويعضده قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب (لا تقدموا) بفتح التاء والقاف والدال، وأصله تتقدموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا لأنه من التفعل وهو المطاوع اللازم، ورجح ما تقدم بما سمعت وبأن فيه استعمال أعرف اللغتين وأشهرهما، لا يقال: الظرف إذا تعلق به العامل قد ينزل منزلة المفعول فيفيد العموم كما قرروه في وابن مقسم مالك يوم الدين فليكن الظرف هاهنا بمنزلة مفعول التقدم مغنيا غناءه، والتقدم بين يدي المرء خروج عن صفة المتابعة حسا فهو أوفق للاستعارة التمثيلية المقصود منها تصوير هجنة الحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته بصورة المحسوس، فتخريج لا تقدموا على اللزوم أبلغ ولا يضره عدم الشهرة فإنه لا يقاوم الأبلغية المطابقة للمقام لما أشار إليه في الكشف من أن المراد النهي عن مخالفة الكتاب والسنة، والتعدية تفيد أن ذلك بجعل وقصد منه للمخالفة لأن التقديم بين يدي المرء أن تجعل أحدا إما نفسك أو غيرك متقدما بين يديه وذلك أقوى في الذم وأكثر استهجانا للدلالة على تعمد عدم المتابعة لا صدورها عنه كيفما اتفق فافهم ولا تغفل.
وجوز أن يكون بين يدي الله ورسوله من باب أعجبني زيد وكرمه فالنهي عن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل: لا تقدموا بين يدي رسول الله، وذكر الله تعالى لتعظيمه عليه الصلاة والسلام والإيذان بجلالة محله عنده عز وجل ومزيد اختصاصه به سبحانه، وأمر التجوز عليه على حاله، وهو كما قال في الكشف أوفق لما يجيء بعده، فإن الكلام مسوق لإجلاله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان استحقاق هذا الإجلال لاختصاصه بالله جل وعلا ومنزلته منه سبحانه فالتقدم بين يدي الله عز شأنه أدخل في النهي وأدخل، وإن جعل مقصودا بنفسه على ما مر فالنهي عن الاستبداد بالعمل في أمر ديني لا مطلقا من غير مراجعة إلى الكتاب والسنة، وعليه تفسير على ما أخرجه ابن عباس ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في الحلية عنه أنه قال: أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وكذا ما أخرجه وأبو نعيم ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا. وابن مردويه
ووجه الدلالة على هذا أن كلامه عليه الصلاة والسلام أريد به ما ينقله عنه تعالى ولفظه أيضا، وما اللفظ من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان المعنى من الوحي أو أراد كلام كل واحد من الله تعالى والرسول عليه الصلاة والسلام، وما أخرج عبد بن حميد في شعب الإيمان وغيرهما عن والبيهقي أنه قال في ذلك: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه يخرج على نحو التخريج الأول لكلام مجاهد ويكون مؤيدا له، وبعضهم يروي أنه قال: لا تفتاتوا على الله تعالى [ ص: 133 ] شيئا حتى يقصه على لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجعل مؤيدا لكلام ابن عباس أيضا، وفسر التقدم بين يدي الله تعالى لأن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام مكشوف المعنى، ثم إن كل ذلك من باب بيان حاصل المعنى في الجملة. ابن عباس
وفي الدر المنثور بعد ذكر المروي عن حسبما ذكرنا قال الحفاظ: هذا التفسير على قراءة (تقدموا) بفتح التاء والدال وهي قراءة لبعضهم حكاها مجاهد الزمخشري وأبو حيان وغيرهما، وكأن ذلك مبني على أن ( تقدموا ) على هذه القراءة من قدم كعلم إذا مضى في الحرب ويأتي من باب نصر أيضا إذ الافتيات وهو السبق دون ائتمار من يؤتمر أنسب بذلك.
واختار بعض الأجلة جعله من قدم من سفره من باب علم لا غير كما يقتضيه عبارة القاموس، وعليه يكون قد شبه تعجيلهم في قطع الحكم في أمر من أمور الدين بقدوم المسافر من سفره إيذانا بشدة رغبتهم فيه نحو وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا واختلف في سبب النزول، فأخرج البخاري وابن المنذر عن وابن مردويه قال: (قدم ركب من عبد الله بن الزبير بني تميم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رضي الله تعالى عنه: أمر أبو بكر القعقاع بن معبد، وقال رضي الله تعالى عنه: بل أمر عمر الأقرع بن حابس، فقال رضي الله تعالى عنه: ما أردت إلا خلافي، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى: عمر يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله حتى انقضت الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أن أناسا ذبحوا قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم النحر فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يعيدوا ذبحا فأنزل الله تعالى: الحسن يا أيها الذين آمنوا إلخ، وفي الكشاف عنه أن أناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت وأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا آخر، والأول ظاهر في أن النزول بعد الأمر والذبح قبل الصلاة يستلزم الذبح قبل رسول الله عليه الصلاة والسلام لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينحر بعدها كما نطقت به الأخبار، وإلى عدم الإجزاء قبل ذهب الإمام والأخبار تؤيده، أخرج الشيخان أبو حنيفة والترمذي وأبو داود عن والنسائي قال: البراء أبو بردة بن نيار قبل الصلاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبدلها فقال: يا رسول الله ليس عندي إلا جذعة فقال صلى الله عليه وسلم: اجعلها مكانها ولن تجزي عن أحد بعدك). (ذبح
وفي رواية أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء).
وكان أبو بردة بن نيار قد ذبح قبل الصلاة الحديث، وفي المسألة كلام طويل محله كتب الفروع فراجعه إن أردته، وعن أيضا لما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدئوه بالمسألة حتى يكون عليه الصلاة والسلام هو المبتدئ، وأخرج وغيره عن ابن جرير قال: ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا وكذا لكان كذا وكذا فكره الله تعالى ذلك وقدم فيه. قتادة
وقيل: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلا عليهم المنذر بن عمرو الساعدي فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة فاعتزيا لهم إلى بني عامر لأنهم أعز من سليم فقتلوهما وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: بئسما صنعتم كانا من سليم أي كانا من أهل العهد لأنهم كانوا معاهدين والسلب ما كسوتهما فوداهما [ ص: 134 ] رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ونزلت أي لا تعملوا شيئا من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأخرج في الأوسط، الطبراني عن وابن مردويه رضي الله تعالى عنها قالت: إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله تعالى عائشة يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله وفي رواية عن مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي دخلت على رضي الله تعالى عنها وكانت قد تبنته في اليوم الذي يشك فيه فقالت للجارية: اسقيه عسلا فقلت: إني صائم فقالت: قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم وفيه نزلت عائشة يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا إلخ، فالمعنى كما في المعالم لا تصوموا قبل صوم نبيكم، وأول هذا صاحب الكشف فقال: الظاهر عندي أنها استدلت بالآية على أنه وقد نهى عليه الصلاة والسلام وفيه نزلت أي في مثل هذا لدلالتها على وجوب الاتباع والنهي عن الاستبداد إذ لا يلوح ذلك التفسير على وجه ينطبق على يوم الشك وحده إلا بتكلف، وهذا نظير ما نقل عن ينبغي أن يمتثل أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونهيه، في جواب المرأة التي اعترضت عليه أنها قرأت كتاب الله وما وجدت اللعن على الواشمة كما ادعاه رضي الله تعالى عنه من قوله: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما رأيت ابن مسعود وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قالت: بلى قال: فإنه نهى عنه.
وأنت تعلم بعد الرواية الأولى عن هذا التأويل، ويعلم من هذه الروايات وغيرها أنهم اختلفوا أيضا في تفسير التقدم، وفي كثير منها تفسيره بخاص، وقال بعضهم: إن الآية عامة في كل قول وفعل ويدخل فيها أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسبقوه في الجواب، وأن لا يمشي بين يديه إلا للحاجة، وأن يستأتي في الافتتاح بالطعام، ورجح بأنه الموافق للسياق ولما عرف في الأصول من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي الكلام عليه بناء على ما قاله الطيبي مجاز باعتبار القدر المشترك الصادق على الحقيقة أيضا دون التمثيل وتشبيه المعقول بالمحسوس ويسمى في الأصول بعموم المجاز وفي الصناعة بالكناية لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة أيضا ومن هنا يجوز إرادة لا تمشوا بين يديه صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر عليه الرحمة أنه لا يقدر على هذا القول مفعول بل يتوجه النهي إلى نفس الفعل فتأمل، ويحتج بالآية على اتباع الشرع في كل شيء وهو ظاهر مما تقدم، وربما احتج بها نفاة القياس وهو كما قال الكيا باطل منهم. نعم قال الجلال السيوطي: يحتج بها على تقديم النص على القياس، ولعله مبني على أن العمل بالنص أبعد من التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم واتقوا الله أي في كل ما تأتون وتذرون من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما نحن فيه إن الله سميع لكل مسموع ومنه أقوالكم عليم بكل المعلومات ومنها أفعالكم فمن حقه أن يتقى ويراقب