وقوله تعالى : والذين آمنوا إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذين شاركتهم ذريتهم في الإيمان ، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم ، وقوله تعالى : واتبعتهم ذريتهم عطف على آمنوا ، وقيل اعتراض للتعليل ، وقوله تعالى : بإيمان متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناء على تفاوت مراتب نفس الإيمان ، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء إليه ، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقا قيل : هو حال من الذرية ، وقيل : من الضمير وتنوينه للتعظيم ، وقيل : منهما وتنوينه للتنكير
والمعول عليه ما قدمنا ألحقنا بهم ذريتهم في الدرجة .
أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في سننه عن والبيهقي قال : «إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ الآية » وأخرجه ابن عباس البزار عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وابن مردويه
وفي رواية ابن مردويه عنه أنه قال : والطبراني وقرأ «إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به » الآية ، وظاهر الإخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصاله بهم أحيانا ولو للزيارة . وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز وجل ، وما قيل : لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه ، وقد يستأنس للتخصيص بما روي عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار ، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته ابن عباس وما ألتناهم أي وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق من عملهم أي من ثواب عملهم من شيء أي شيئا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان ، وقال - الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئا بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملا - وليس بشيء وإن قال ابن زيد يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى : أبو حيان كل امرئ بما كسب رهين وإلى الأول ذهب ابن عباس والجمهور والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية ، وقال وابن جبير منذر بن سعيد : هي في الصغار .
وروي عن الحبر أنهما قالا : إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم [ ص: 33 ] المؤمنين ، وجعل بإيمان عليه متعلقا بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل : وكأن من يقول بذلك يفسر ( اتبعتهم ذريتهم ) بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم ، وجوز أن يتعلق بإيمان باتبعتهم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعا لآبائهم فكانوا مؤمنين حكما لصغرهم وإيمان آبائهم ، والصغير يحكم بإيمانه تبعا لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى ، وقيل : الموصول معطوف على حور ، والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين ، وقوله تعالى : والضحاك واتبعتهم عطف على ( زوجناهم ) وقوله سبحانه : بإيمان متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل ، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم ، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل : بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم ، وصنيع ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجها أول ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل ، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح الزمخشري كابن عباس وغيره ، وقيل عليه : إنه تعصب منه ، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف ، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم .
وقرأ «وأتبعناهم » بقطع الهمزة وفتحها ، وإسكان التاء ، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان ، وقرأ أيضا ذرياتهم جمعا نصبا ، أبو عمرو كذلك رفعا ، وقرأ « ذرياتهم » بكسر الذال «واتبعتهم ذريتهم » بتاء الفاعل ، ونصب ذريتهم على المفعولية ، وقرأ وابن عامر الحسن «ألتناهم » بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم ، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب ، وابن كثير آلتناهم بالمدمن آلت يؤلت ، وابن هرمز وابن مسعود لتناهم من لات يليت وهي قراءة وأبي طلحة ، ورويت عن والأعمش شبل ، وعن وابن كثير طلحة أيضا - لتناهم - بفتح اللام ، قال والأعمش سهل : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضا آلتناهم بالمد ، وقال : لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية - وليس كما قال - بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز ، وقرئ وما ولتناهم من ولت يلت ، ومعنى الكل واحد ، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلا قام إلى رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال : لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه عمر كل امرئ بما كسب أي بكسبه وعمله رهين أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤد الدين فإن كان العمل صالحا فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب ، ولذا قال جل وعلا : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين [المدثر : 38 ، 39] فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم ، ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذبا لأنه لم يفك رقبته ، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى : هو البر الرحيم [الطور : 28] ليكون كلاما راجعا إلى حال الفريقين - المدعوعين . والمتقين - وإنما جعل متخللا بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما ( أعد ) لهم ، قال في الكشف : [ ص: 34 ] ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضا ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقا لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص ، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلا على الآباء لا على الأبناء ابتداء لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل ، وجعله استئنافا بيانيا لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد ، وقيل : رهين فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ثابت ، وفي الإرشاد أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله ، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء ، فالجملة تعليل لما قبلها ، وأنت تعلم أن فعيلا بمعنى المفعول أسرع تبادرا إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى .