«وهي مكية » في قول الجمهور، وأخرج ذلك عن ابن مردويه عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم ، وعائشة وابن النحاس عن رضي الله تعالى عنهما ، وأخرج ابن عباس ابن الضريس وابن مردويه في الدلائل عنه أنها نزلت والبيهقي بالمدينة ، وحكي ذلك عن ، وحكاه في البحر عن مقاتل أيضا ، وحكى أيضا قولا آخر عن ابن مسعود وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى : [ ص: 97 ] ابن عباس يسأله من في السماوات والأرض [الرحمن : 29] الآية ، وحكي الاستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعينه ، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي ، وسبع وسبعون في الحجازي ، وست وسبعون في البصري .
ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي : أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر [القمر : 46] ثم وصف عز وجل حال المجرمين في سقر [القمر : 48] وحال المتقين في جنات ونهر [القمر : 54] فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة ، والإشارة إلى ( شدتها) ، ثم وصف النار وأهلها ، ولذا قال سبحانه : يعرف المجرمون بسيماهم [الرحمن : 41] ولم يقل الكافرون ، أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك : إن المجرمين [القمر : 47] ثم وصف الجنة وأهلها ولذا قال تعالى فيهم : ولمن خاف مقام ربه جنتان وذلك هو عين التقوى ولم يقل ولمن آمن ، أو أطاع ، أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل؛ ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها ، وقال في ذلك : إنه تعالى لما ذكر هناك مقر المجرمين في سعر ، ومقر المتقين أبو حيان في جنات ونهر عند مليك مقتدر [القمر : 54] ذكر سبحانه هنا شيئا من آيات الملك وآثار القدرة ، ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان ذكره هناك على جهة الاختصار ، ولما أبرز قوله سبحانه : عند مليك مقتدر بصورة التنكير فكأن سائلا يسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين ؟ فقيل : «الرحمن» إلخ ، والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنه تعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عز وجل ، وبينعقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعى عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم إثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها ، وهذا التكرار أحلى من السكر إذ تكرر ، وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضى التكرار في سورة «الرحمن» إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة ، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال ؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا ؟ فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا :
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلا من كليب
إذا رجف العضاة من الدبور على أن ليس عدلا من كليب
إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلا من كليب
إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلا من كليب
إذا خيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلا من كليب
غداة تأثل الأمر الكبير على أن ليس عدلا من كليب
إذا ما خار جأش المستجير
ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولولا خوف الملل لأوردتها ، ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء الله تعالى في محله ، وقسم في الإتقان التكرار إلى أقسام ، وذكر أن منه ما هو لتعدد المتعلق بأن يكون المكررثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول ثم قال : وهذا القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) من سورة الرحمن فإنها وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة [ ص: 98 ]
تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام وغيره ، وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله : إن التأكيد إلخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع وإن لزم منه التأكيد فافهم ، وبدأ سبحانه من النعم بتعليم القرآن فقال عز قائلا : بسم الله الرحمن الرحيم الرحمن علم القرآن لأنه أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه ومناطه ، ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه ، ونصبه على أنه مفعول ثان - لعلم - ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه - أي علم الإنسان القرآن - وهذا المفعول هو الذي كان فاعلا قبل نقل فعل الثلاثي إلى فعل المضعف ، وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال : علم لا بد له من مفعول ثان وترك للإشارة إلى أن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص ، ويمكن أن يقال :
أراد أنه لا بد له من مفعول آخر مع هذا المفعول فلا جزم بسهوه ، وقيل : المقدر جبريل عليه السلام أو الملائكة المقربين عليهم السلام ، وقيل : محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعلى القولين يتضمن ذلك الإشارة إلى أن القرآن كلام الله عز وجل ، والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام ، ولي في تعليم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام تردد ما بناء على ما في الإتقان نقلا عن ابن الصلاح من أن فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس ، وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة على أن قراءة القرآن كرامة أكرم الله تعالى بها البشر جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثني منه جبريل عليه السلام ، وقيل : ( علم ) من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر ، أو علامة للنبوة ومعجزة ، وهذا على ما قيل : يناسب ما ذكر في مفتتح السورة السابقة من قوله تعالى : وانشق القمر [القمر : 1] وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة .
وقد أبعد القائل ولو أبدى ألف مناسبة ، فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم ، والمراد بتعليم القرآن قيل :
إفادة العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتد به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن الله تعالى لم يغفل شيئا فيه .
أخرج في كتاب العظمة عن أبو الشيخ مرفوعا أبي هريرة «إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة ».
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن ، وقال ابن مسعود : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى : وقال ابن عباس المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ، ثم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه ، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة ، ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه ، وفسر بعضهم التعليم بتنبيه النفس لتصور المعاني ، وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن فالآية كقوله تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر [القمر : 17 ، 22 ، 32 ، 40] وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى ، ( والرحمن ) مبتدأ والجملة بعده خبره كما هو الظاهر ، وإسناد [ ص: 99 ]
تعليمه إلى اسم ( الرحمن ) للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها ، وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر ، وفيه من تعظيم شأن القرآن ما فيه ، وقيل : ( الرحمن ) خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف أي الله الرحمن ، أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عز وجل وهو خلاف الظاهر.