واختلف في تعيينهم فقيل : هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان ، وروي هذا عن عكرمة ، وأخرج ومقاتل عن ابن مردويه قال : نزلت في ابن عباس حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وكل رجل منهم سابق أمته أفضلهم ، وقيل : هم الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب التقوى الواقعة بعد الإيمان ، وقيل هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم مقدمو أهل الأديان ، وقال وعلي : هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى : ابن سيرين والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار [التوبة : 100] وعن ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة ، وعن كرم الله تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس ، وأخرج علي أبو نعيم عن والديلمي مرفوعا ابن عباس أول من يهجر إلى المسجد وآخر من يخرج منه .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن المنذر عبادة بن أبي سودة مولى قال : بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج في سبيل الله عز وجل ، وعن عبادة بن الصامت هم السابقون إلى الجهاد ، وعن الضحاك هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر ، وقال ابن جبير كعب : هم أهل القرآن ، وفي البحر في الحديث ، وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق ، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال ، وعن «سئل عن السابقين فقال : هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» أنهم المسارعون إلى كل ما دعا الله تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم ، وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل ، وأيا ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ وخبر والمعنى ( والسابقون ) هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم كقوله : ابن كيسان
(
أنا أبو النجم وشعري شعري
) وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى ، وقيل متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني أي السابقون إلى طاعة الله تعالى «السابقون» إلى رحمته سبحانه ، أو السابقون إلى الخير السابقون إلى الجنة ، والتقدير الأول محكي عن صاحب المرشد . وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأيا ما كان فقوله تعالى : أولئك المقربون مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني ، وقيل : السابقون السابق مبتدأ ( والسابقون ) اللاحق تأكيد له وما بعد خبر وليس بذاك أيضا لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى : فأصحاب إلخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ ، ولفوات المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين ولفوات ما في الاستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما لم يقل - السابقون ما السابقون - على منوال الأولين لأنه جعل أمرا مفروغا مسلما مستقلا في المدح والتعجيب ، والإشارة بأولئك إلى السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل ، [ ص: 133 ] ( والمقربون ) من القربة بمعنى الحظوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين أنيلوا حظوة ومكانة عند الله تعالى ، وقال غير واحد : المراد الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم .هذا وفي الإرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى : فأصحاب الميمنة خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه : وأصحاب المشأمة وقوله جل شأنه : والسابقون فإن المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام .
وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها ، والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة ، والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلا منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عن ترامي أحوالهما في الخير والشر إنباء إجماليا مشعرا بأن لأحوال كل منهما تفصيلا مترقبا لكن لا على أن ما الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على ما رآه في أمثاله بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون ما خبرا لا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال فيما سيبويه أصحاب المشأمة ، وأما القسم الأخير فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج فقوله تعالى : السابقون مبتدأ والإظهار في مقام الإضمار للتفخيم ( وأولئك ) مبتدأ ثان ، أو بدل من الأول وما بعده خبر له ، أو للثاني ، والجملة خبر للأول انتهى ، وقيل عليه : إنه ليس في جعل جملتي الاستفهام وقوله سبحانه : السابقون إخبارا لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلا حتى يقال : حقها أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك .
وأيضا مقتضى ما ذكره أن لا يذكر ما أصحاب اليمين و ما أصحاب الشمال في التفصيل ، وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه على هذا الوجه ، ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للإعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه فلتسمع ، والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن المتبادر بعد بيان الانقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي المقصودة أولا وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقا وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين على ما ذكر كون تينك الجملتين الاستفهاميتين معترضتين بل يجوز أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل : فأحدها أصحاب الميمنة المقول فيهم ما أصحاب الميمنة وكذا يقال في وأصحاب المشأمة إلخ ، ويجعل أيضا السابقون صفة - للسابقون - قبله ، والتأويل في الوصفية كالتأويل في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائما مقام تينك الجملتين في المدح ، والجملة بعد مستأنفة استئنافا بيانيا كما في الوجه الشائع ، وما يقال : إن في هذا الوجه حذف الموصول مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون - أل - في الوصف حيث لم يرد منه الحدوث موصولة فتأمل ولا تغفل ،