وقوله تعالى : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب ، وسلك هذا المسلك في تعليل الابتداء بالعذاب اهتماما بدفع توهم الظلم في التعذيب ، ولما كان إيصال الثواب مما ليس فيه توهم نقص أصلا لم يسلك فيه نحو هذا ، والمترف هنا بقرينة المقام هو المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع ، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا قبل ما ذكر من العذاب في الدنيا متبعين هوى أنفسهم وليس لهم رادع منها يردعهم عن مخالفة أوامره عز وجل وارتكاب نواهيه سبحانه كذا قيل ، وقيل : هو العاتي المستكبر عن قبول الحق والإذعان له ، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا في الدنيا مستكبرين عن قبول ما جاءتهم به رسلهم من الإيمان بالله عز وجل وما جاء منه سبحانه ، وقيل : هو الذي أترفته النعمة أي أبطرته وأطغته ، وقريب منه ما قيل : هو المنعم المنهمك في الشهوات ، وعليه قول أبي السعود أي إنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا بنقائضها ، وتعقب بأن كثيرا من أهل الشمال ليسوا مترفين بالمعنى الذي اعتبره فكيف يصح تعليل عذاب الكل بذلك ولا يرد هذا على ما قدمناه من القولين كما لا يخفى .
ومن الناس من فسر المترف بما ذكر وتفصى عن الاعتراض بأن تعليل عذاب الكل بما ذكر في حيز العلة لا يستدعي أن يكون كل من المذكورات موجودا في كل من أصحاب الشمال بل وجود المجموع في المجموع وهذا لا يضر فيه اختصاص البعض بالبعض فتأمله ، وقيل : المترف المجعول ذا ترفة أي نعمة واسعة والكل مترفون بالنسبة إلى الحالة التي يكونون عليها يوم القيامة ، وهو على ما فيه لا يظهر أمر التعليل عليه