ولما نعى سبحانه عليهم إباءهم عن الإتيان ليستغفر لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإعراضهم واستكبارهم أشار عز وجل إلى عدم فائدة الاستغفار لهم لما علم سبحانه من سوء استعدادهم واختيارهم بقوله تعالى : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم فهو للتسوية بين الأمرين الاستغفار لهم وعدمه ، والمراد الإخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله عز وجل شأنه : لن يغفر الله لهم وتعليله بقوله تعالى : إن الله لا يهدي القوم الفاسقين أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح ، فإن المغفرة فرع الهداية ، والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهم بأعيانهم . والإظهار في مقام الإضمار لبيان غلوهم في الفسق والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولا أوليا ، والآية في ابن أبي كسوابقها - كما سمعت - ولواحقها - كما صح - وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى ، والاستغفار لهم قيل : على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين من جناياتهم ، وكان ذلك قد اعتبر في جانب الأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الإتيان لا يظهر كونه سببا للاستغفار ، ويومئ إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبي : «تب » وترك الاستغفار على تقدير الإصرار على القبائح والاستكبار وترك الاعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة والسلام استغفار لهم .
وحكى أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعد ما صدر منهم ما صدر بالتوبة ، وأخرج مكي عن ابن جرير قال : لما نزلت آية براءة ابن عباس استغفر لهم أو لا تستغفر [التوبة : 80] إلخ قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : «أسمع ربي قد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم ، فنزلت هذه الآية سواء عليهم أستغفرت لهم » إلخ .
وأخرج أيضا عن نحوه وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورة تدعو لالتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل ، ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا ، والآية الأولى - فيما اختار - نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن عروة وهو الأوفق بالسياق ، وهذه نزلت في ابن عباس ابن أبي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحة ويجمع الطائفتين النفاق ، ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم ، ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبي كان مريضا إذ ذاك ، ورأيت في خبر أخرجه عن عبد بن حميد ما يشعر بأنه بعد قوله : والله لئن رجعنا إلى ابن سيرين المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه ، وفيه أنه قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ذهب إليه بشفاعة ولده : حاجتي إذا [ ص: 114 ]
أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت الآية ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره [التوبة : 84] ولا يشكل الاستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم كأن يموت على ما هو عليه من الكفر والنفاق ، وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة ، والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق .
وقرأ -آستغفرت - مدة على الهمزة فقيل : هي عوض من همزة الوصل ، وهي مثل المدة في قوله تعالى : " قل آلذكرين حرم " [الأنعام : 143 ، 144] لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة ، وعنه أيضا ضم ميم «عليهم » إذ أصلها الضم ووصل الهمزة وروى أبو جعفر معاذ بن معاذ العنبري عن كسر الميم على أصل التقاء الساكنين ، ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الاستفهام ، وجاء حذف الهمزة ثقة بدلالة " أم " عليها كما في قوله : أبي عمرو
بسبع رمين الجمر أم بثمان
وقال : قرأ الزمخشري «آستغفرت » إشباعا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان لا قلبا لهمزة الوصل ألفا كما في «آلسحر » و «آلله » وقال أبو جعفر أبو جعفر بن القعقاع : بمدة على الهمزة وهي ألف التسوية .
وقرأ أيضا بوصل الألف دون همزة على الخبر ، وفي ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام ، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها ، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر