أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالقرآن والسنن
أو للسببية، مثلها في قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم، وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولا : وإذ قال ربك وهنا وإذ قلنا بضمير العظمة، لأن في الأول خلق آدم واستخلافه، فناسب ذكر الربوبية مضافا إلى أحب خلفائه إليه، وهنا المقام مقام إيراد أمر يناسب العظمة، وأيضا في السجود تعظيم، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم، وقرأ بضم تاء الملائكة إتباعا لضم الجيم، وهي لغة أبو جعفر أزدشنوأة، وهي لغة غريبة عربية وليست بخطإ كما ظن الفارسي، فقد روي أن امرأة رأت بناتها مع رجل، فقالت: أفي السوأة تنتنه، تريد أفي السوأة أنتنه.فسجدوا إلا إبليس الفاء لإفادة مسارعتهم في الامتثال وعدم تثبطهم فيه، (وإبليس) اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، ووزنه فعليل قاله ، وقال الزجاج وغيره : إنه عربي مشتق من الإبلاس، وهو الإبعاد من الخير، أو اليأس من رحمة الله تعالى، ووزنه على هذا مفعيل، ومنعه من الصرف حينئذ لكونه لا نظير له في الأسماء، واعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر، كإحليل وإكليل، وفيه نظر، وقيل : لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية، إذ لم يسم به أحد من أبو عبيدة العرب، وليس بشيء، واختلف الناس فيه، هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر، وبأن الملائكة كما روى عن مسلم رضي الله تعالى عنها خلقوا من النور، وخلق الجن من مارج من نار، وهو قد خلق مما خلق الجن، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه : عائشة أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وعد تركه السجود إباء، واستكبارا حينئذ إما لأنه كان ناشئا بين الملائكة مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه، وتناوله الأمر، ولم يمتثل، أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن، أو لأنه عليه اللعنة كان مأمورا صريحا لا ضمنا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى : إذ أمرتك وضمير فسجدوا راجع للمأمورين بالسجود، وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول، مستدلين بظاهر الاستثناء، وتصحيحه بما ذكر تكلف، لأنه وإن كان واحدا منهم لكن كان رئيسهم، ورأسهم كما نطقت به الآثار، فلم يكن مغمورا بينهم، ولأن صرف الضمير إلى مطلق المأمورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت، إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس، وكونه مأمورا صريحا الآية غير صريحة فيه، ودون إثباته خرط القتاد ، واقتضاء ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلا، وقوله تعالى ففسق كالبيان له، ويجوز أيضا أن يكون كان بمعنى صار، كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية، فصار جنيا، كما مسخ اليهود، فصاروا قردة وخنازير، سلمنا، لكن لا منافاة بين كونه جنا، وكونه ملكا، فإن الجن كما يطلق على ما يقابل الملك يقال على نوع منه على ما روي عن رضي الله تعالى عنهما، وكانوا خزنة الجنة، أو صاغة حليهم، وقيل : صنف من الملائكة، لا تراهم الملائكة مثلنا، أو أنه يقال للملائكة جن أيضا كما قاله ابن إسحاق لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، وبذلك [ ص: 230 ] فسر بعضهم قوله تعالى : ابن عباس وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا وورد مثله في كلام العرب، فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليه السلام :
وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر
ومن ذا الذي يا مي لا يتغير
وكونه مخلوقا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضا، ولا قادح في ملكيته، لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس، واختلافهما بالعوارض على أن ما في أثر رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب، وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار، إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار، وملائكة من ثلج، وملائكة من هذا، وهذه، وورد أن تحت العرش نهرا إذا اغتسل فيه عائشة جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك، وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات، وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات، كالبررة والفسقة من الإنس والجن، يشملهما، وكان إبليس من هذا الصنف، فعده ما شئت من ملك وجن وشيطان، وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة، ومنقطع إن لم يكن منهم، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني، وقد شاع عند النحاة، والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه، والمتصل هو المستثنى من جنسه، قال القرافي في العقد المنظوم : وهو غلط فيهما، فإن قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة و لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله، فيبطل الحدان، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أولا بنقيض ما حكمت به، ولا بد من هذين القيدين، فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس سواء حكم عليه بنقيضه أو لا، نحو: رأيت القوم إلا فرسا، فالمنقطع نوعان، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم أجزائه، فقوله تعالى : لا يذوقون إلخ، منقطع بسبب الحكم بغير النقيض لأن نقيضه ذاقوه فيها، وليس كذلك، وكذلك إلا أن تكون تجارة لأنها لا تؤكل بالباطل، بل بحق، وكذلك إلا خطأ لأنه ليس له القتل مطلقا، وإلا لكان مباحا، فتنوع المنقطع حينئذ إلى ثلاثة، الحكم على الجنس بغير النقيض، والحكم على غيره به، أو بغيره، والمتصل نوع واحد، فهذا هو الضابط، وقيل : العبرة بالاتصال، والانفصال الدخول في الحكم وعدمه، لا في حقيقة اللفظ وعدمه، فتأمل ترشد.
وأفهم كلام القوم نفعنا الله تعالى بهم أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم، كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعا ما يرد على الظاهر :
طه النبي تكونت من نوره كل الخليقة ثم لو ترك القطا
أبى الله إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
وكان سراج الوصل أزهر بيننا فهبت به ريح من البين فانطفى
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
وكنا وليلى في صعود من الهوى فلما توافينا ثبت وزلت