يريد الله ليبين لكم استئناف مقرر لما سبق من الأحكام، ومثل هذا التركيب وقع في كلام العرب قديما، وخرجه النحاة - كما قال - على مذاهب، فقيل: مفعول يريد: (محذوف) أي: تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه، واللام للتعليل أو العاقبة، أي: ذلك لأجل التبيين، ونسب هذا إلى الشهاب وجمهور البصريين، فتعلق الإرادة غير التبيين، وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام، وهو ممتنع أو ضعيف. سيبويه
قيل: إنه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف، وقد قصد هنا تأكيد الاستقبال اللازم للإرادة، ولكن باعتبار التعلق، وإلا فإرادة الله قديمة، وسمى صاحب اللباب هذه اللام لام التكملة، وجعلها مقابلة للام التعدية.
وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك، كما قيل به في: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، على أنه مبتدأ والجار والمجرور خبره، أي: إرادتي كائنة للتبيين، وفيه تكلف، وذهب الكوفيون إلى أن اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار (أن) وهي وما بعدها مفعول للفعل المقدم؛ لأن اللام قد تقام مقام (أن) في فعل الإرادة والأمر، والبصريون يمنعون ذلك، ويقولون: إن وظيفة اللام الجر، والنصب بـ(أن) مضمرة بعدها، ومفعول (يبين) على بعض الأوجه محذوف، أي (ليبين لكم) ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم، أو ما تعبدكم به، أو نحو ذلك، وجوز أن يكون قوله تعالى: (ليبين) وقوله تعالى: ويهديكم تنازعا في قوله سبحانه: سنن الذين من قبلكم أي: مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين؛ لتقتفوا أثرهم، وتتبعوا سيرهم، وليس المراد أن الحكم كان كذلك في الأمم السابقة، كما قيل به، بل المراد كون ما ذكر من نوع طرائق المتقدمين الراشدين وجنسها في بيان المصالح ويتوب عليكم عطف على ما قبله، وحيث كانت التوبة ترك الذنب مع الندم والعزم على عدم العود، وهو مما يستحيل إسناده إلى الله تعالى، ارتكبوا تأويل ذلك في هذا المقام بأحد أمور:
فقيل إن التوبة هنا بمعنى المغفرة مجازا؛ لتسببها عنها، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي على سبيل الاستعارة التبعية؛ لأن التوبة تمنع عنها، كما أن إرشاده تعالى كذلك، أو مجاز عن حثه تعالى عليها؛ لأنه سبب لها عكس الأول، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يكفرها على التشبيه أيضا، وإلى جميع ذلك أشار ناصر الدين البيضاوي.
وقرر العلامة الطيبي أن هذا من وضع المسبب موضع السبب، وذلك لعطف (ويتوب) على (ويهديكم) [ ص: 14 ] إلخ على سبيل البيان، كأنه قيل: ليبين لكم ويهديكم ويرشدكم إلى الطاعات، فوضع موضعه (ويتوب عليكم) وما يرد على بعض الوجوه من لزوم تخالف المراد عن الإرادة - وهي علة تامة - يدفعه كون الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين، بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة، والله عليم مبالغ في العلم بالأشياء، فيعلم ما شرع لكم من الأحكام، وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم، وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرهم حكيم مراع في جميع أفعاله الحكمة والمصلحة، فيبين لمن يشاء ويهدي من يشاء، ويتوب على من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون