إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم قيل: بيان لحال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم، فالمراد بهؤلاء الذين كفروا هم المتقدمون في صدر السورة وفي ذلك احتمال أشرنا إليه فلا تغفل.
ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة لكن لتحقق ذلك لم يصرح به. وجيء بالجملة اسمية أو يقدر متعلق الجار بمعنى المستقبل أو أنهم فيها الآن على إطلاق نار جهنم على ما يوجبها من الكفر مجازا مرسلا بإطلاق اسم المسبب على السبب. وجوزت الاستعارة وقيل: إن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة عرضية وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية وقد مر نظيره غير مرة.
خالدين فيها حال من المستكن في الخبر، واشتراك الفريقين في دخول النار بطريق الخلود لا ينافي تفاوت عذابهما في الكيفية؛ فإن جهنم -والعياذ بالله- تعالى دركات، وعذابها ألوان، فيعذب أهل الكتاب في درك منها نوعا من العذاب، والمشركون في درك أسفل منه بعذاب أشد؛ لأن كفرهم أشد من كفر أهل الكتاب، وكون أهل الكتاب كفروا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع علمهم بنعوته الشريفة وصحة رسالته من كتابهم ولم يكن للمشركين علم بذلك كعلمهم لا يوجب كون عذابهم أشد من عذاب المشركين ولا مساويا له؛ فإن الشرك ظلم عظيم. وقد انضم إليه من أنواع الكفر في المشركين مما ليس عند أهل الكتاب، وقد استدل بالآية على خلود الكفار مطلقا في النار.
أولئك إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح المذكورة وما فيه من معنى البعد لبعد منزلتهم في الشر أي أولئك البعداء المذكورون هم شر البرية أي الخلقية وقيل: أي البشر، والمراد قيل: هم شر البرية أعمالا فتكون الجملة في حيز التعليل لخلودهم في النار. وقيل: شرها مقاما ومصيرا فتكون تأكيدا لفظاعة حالهم، ورجح الأول بأنه الموافق لما سيأتي إن شاء الله تعالى في حق المؤمنين. وأيا ما كان فالعموم على ما قيل مشكل؛ فإن إبليس وجنوده شر منهم أعمالا ومقاما، وكذا المشركون والمنافقون حيث ضموا إلى الشرك النفاق وقد قال سبحانه: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وقال بعض: لا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر منهم كفرعون وعاقر الناقة. وأجاب بأن المراد بالبرية المعاصرون لهم ولا يخفى أنه يبقى معه الإشكال بإبليس ونحوه. وأجيب بأن ذلك إذا كان الحصر حقيقيا وأما إذا كان إضافيا بالنسبة إلى المؤمنين بحسب زعمهم فلا إشكال؛ إذ يكون المعنى: أولئك هم شر البرية لا غيرهم من المؤمنين كما يزعمون مآلا أو حالا. وقيل: يراد بالبرية البشر. ويراد بشريتهم شريتهم بحسب الأعمال ولا يبعد أن يكونوا بحسب ذلك هم شر جميع البرية لما أن كفرهم مع العلم بصحة رسالته عليه الصلاة والسلام ومشاهدة معجزاته الذاتية والخارجية ووعد الإيمان به عليه الصلاة والسلام ومع إدخالهم به الشبهة في قلوب من يأتي بعدهم وتسببهم به ضلال كثير من الناس إلى غير ذلك مما تضمنه واستلزمه من القبائح شر كفر وأقبحه لا يتسنى مثله لأحد من البشر إلى يوم القيامة، وكذا سائر أعمالهم من تحريف الكلم عن مواضعه وصد الناس عنه صلى الله تعالى عليه وسلم ومحاربتهم إياه عليه الصلاة والسلام، وكون كفر فرعون وعاقر الناقة وفعلهما بتلك المثابة غير مسلم، ويلتزم دخول المنافقين في عموم الذين كفروا أو كون كفرهم وأعمالهم دون كفر وأعمال [ ص: 206 ] المذكورين وفيه شيء لا يخفى فتأمل.
وقيل: ليس المراد بأولئك الذين كفروا أقواما مخصوصين وهم المحدث عنهم أولا بل الأعم الشامل لهم ولغيرهم من سالف الدهر إلى آخره وهو على ما فيه لا يتم بدون حمل البرية على البشر فلا تغفل.
وقرأ الأعرج وابن عامر «البريئة» هنا وفيما بعد بالهمزة فقيل: هو الأصل من برأهم الله تعالى بمعنى ابتدأهم واخترع خلقهم فهي فعيلة بمعنى مفعولة، لكن عامة العرب إلا أهل ونافع: مكة التزموا تسهيل الهمزة بالإبدال والإدغام فقالوا: البرية؛ كما قالوا الذرية والخابية. وقيل: ليس بالأصل وإنما البرية بغير همز من البرى المقصور يعني التراب فهو أصل برأسه والقراءتان مختلفتان أصلا ومادة ومتفقتان معنى في رأي وهو أن يكون المراد عليهما البشر، ومختلفان فيه أيضا في رأي آخر وهو أن يكون المراد بالمهموز الخليفة الشاملة للملائكة والجن كالبشر، وبغير المهموز البشر المخلوقون من التراب فقط، وأيا ما كان فليست القراءة بالهمز خطأ، كيف وقد نقلت عمن ثبتت عصمته مع أن الهمز لغة قوم من أنزل عليه الكتاب صلى الله تعالى عليه وسلم.