فما أدري وسوف أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وقيل : لا اختصاص له بهم، بل يطلق على النساء أيضا، لقوله تعالى : إنا أرسلنا نوحا إلى قومه والأول أصوب، واندراج النساء على سبيل الاستتباع والتغليب والمجاز، خير من الاشتراك، وسمي الرجال قوما لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء، وفي إقبال موسى عليهم بالنداء، ونداؤه لهم (بياقوم) إيذان بالتحنن عليهم، وأنه منهم، وهم منه، وهز لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم، والباء في باتخاذكم سببية، وفي الاتخاذ هنا الاحتمالان السابقان هناك، فتوبوا إلى بارئكم الفاء للسببية، لأن الظلم سبب للتوبة، وقد عطفت ما بعدها على إنكم ظلمتم والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف بالواو، وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معا، والبارئ هو الذي خلق الخلق بريا من التفاوت وعدم تناسب الأعضاء وتلائم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر، والرقة، والأخرى بخلافه، ومتميزا بعضه عن بعض، بالخواص والأشكال والحسن والقبح، فهو أخص من الخالق، وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره، إما على سبيل التفصي كبرء المريض ، أو الإنشاء، كبرأ الله تعالى آدم ، أي خلقه ابتداء متميزا عن لوث الطين، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله تعالى، ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم [ ص: 260 ] وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم، حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها، وهو مثل في الغباوة والبلادة، وقرأ (بارئكم) بالاختلاس، وروي عنه السكون أيضا، وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ . أبو عمروفاقتلوا أنفسكم الفاء للتعقيب، والمتبادر من القتل القتل المعروف من إزهاق الروح، وعليه جمع من المفسرين، والفعل معطوف على سابقه، فإن كانت توبتهم هو القتل، إما في حقهم خاصة، أو توبة المرتد مطلقا في شريعة موسى عليه السلام، فالمراد بقوله تعالى : فتوبوا اعزموا على التوبة ليصح العطف، وإن كانت هي الندم، والقتل من متمماتها كالخروج عن المظالم في شريعتنا، فهو على معناه، ولا إشكال، وقد يقال : إن التوبة جعلت لهؤلاء عين القتل ولا حاجة إلى تأويل (توبوا) باعزموا، بل تجعل الفاء للتفسير، كما تجعل الواو له، وقد قيل به في قوله تعالى : فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا، فمعنى اقتلوا أنفسكم حينئذ ليقتل بعضكم بعضا كما في قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم ولا تلمزوا أنفسكم والمؤمنون كنفس واحدة، وروي أنه أمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده، والمعنى عليه: استسلموا أنفسكم للقتل، وسمى الاستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز، والقاتل إما غير معين، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليه السلام، والذين كانوا مع موسى عليه السلام، وفي كيفية القتل أخبار لا نطيل بذكرها، وجملة القتلى سبعون ألفا، وبتمامها نزلت التوبة، وسقطت الشفار من أيديهم، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم، وقال : لا يجوز ذلك عقلا، إذ الأمر لمصلحة المكلف، وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقا بأمره نستبقيها، وبأمره نفنيها، وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو حياة سرمدية، وبهجة أبدية، وأن الدار الآخرة لهي الحيوان، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه، ووال في بلد يسوسه، وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه، وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين، والميتتين فيهما، ومن الناس من جوز ذلك، إلا أنه استبعد وقوعه فقال : معنى اقتلوا أنفسكم ذللوا ومن ذلك قوله :
إن التي عاطيتني فرددتها قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
ذلكم خير لكم عند بارئكم جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة، والإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم، وخير أفعل تفضيل حذفت همزته، ونطقوا بها في الشعر قال الراجز :
بلال خير الناس وابن الأخير
وقد تأتي، ولا تفضيل، والمعنى أن ذلكم خير لكم من العصيان والإصرار على الذنب، أو خير من ثمرة العصيان، وهو الهلاك الدائم، والكلام على حد العسل أحلى من الخل، أو خير من الخيور كائن لكم. [ ص: 261 ] والعندية هنا مجاز، وكرر البارئ بلفظ الظاهر اعتناء بالحث على التسليم له في كل حال، وتلقي ما يرد من قبله بالقبول والامتثال، فإنه كما رأى الإنشاء راجحا فأنشأ، رأى الإعدام راجحا فأمر به، وهو العليم الحكيم.
فتاب عليكم جواب شرط محذوف بتقدير قد، إن كان من كلام موسى عليه السلام لهم، تقديره إن فعلتم ما أمرتم به، فقد تاب عليكم، ومعطوف على محذوف، إن كان خطابا من الله تعالى لهم، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم فتاب عليكم بارئكم، وفيه التفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليه السلام بلفظ القوم، وهو من قبيل الغيبة، أو من التكلم إلى الغيبة في (فتاب) حيث لم يقل : فتبنا، ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة، والشرط، وإبقاء الجواب، وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال، وظاهر الآية كونها إخبارا عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك، وقال : جعل الله تعالى القتل لمن قتل شهادة، وتاب عن الباقين، وعفا عنهم، فمعنى (عليكم) عنده على باقيكم، ابن عطية إنه هو التواب الرحيم تذييل لقوله تعالى : فتوبوا، فإن التوبة بالقتل لما كانت شاقة على النفس هونها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها، ويسهلها، ويبالغ في الإنعام على من أتى بها، أو تذييل لقوله تعالى : فتاب عليكم وتفسر التوبة منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين، والتأكيد لسبق الملوح، أو للاعتناء بمضمون الجملة، والضمير المنصوب إن كان ضمير الشأن فالضمير المرفوع مبتدأ، وهو الأنسب لدلالته على كمال الاعتناء بمضمون الجملة، وإن كان راجعا إلى البارئ سبحانه، فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ، هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه بمنزلة عجل بني إسرائيل، فلا يتخذه إلها، أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأن الله سبحانه قد خلق نفسه في أصل الفطرة مستعدة لقبول فيض الله تعالى، والدين القويم، ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم، والترقي إلى جناب القدس، وحضرة الأنس، وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب، والفرقان الذي يهتدى بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب، فمتى أخلدت النفس إلى الأرض، واتبعت هواها، وآثرت شهواتها على مولاها أمرت بقتلها بكسر شهواتها، وقلع مشتهياتها، ليصح لها البقاء بعد الفناء، والصحو بعد المحو، وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية، وهذا هو الجهاد الأكبر، والموت الأحمر.
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
تعالوا نقم مأتما للهموم فإن الحزين يواسي الحزينا