قوله تعالى : إني آنست نارا فيه وجهان :
أحدهما : رأيت نارا ، قاله أبو عبيدة ومنه سمي الإنسان إنسا لأنهم مرئيون .
الثاني : أحسست نارا ، قاله قتادة ، والإيناس : الإحساس من جهة يؤنس بها .
سآتيكم منها بخبر فيه وجهان :
أحدهما : سأخبركم عنها بعلم ، قاله ابن شجرة .
الثاني : بخبر الطريق ، لأنه قد كان ضل الطريق ، قاله ابن عباس .
أو آتيكم بشهاب قبس والشهاب الشعاع المضيء ، ومنه قيل للكوكب الذي يمر ضوؤه في السماء شهاب ، قال الشاعر:
في كفه صعدة مثقفة فيها سنان كشعلة القبس
والقبس هو القطعة من النار ، ومنه اقتبست النار ، أخذت منها قطعة ، واقتبست منه علما إذا أخذت منه علما ، لأنك تستضيء به كما تستضيء بالنار .
لعلكم تصطلون أي لكي تصطلون من البرد ، قال قتادة : وكان شتاء .
قوله تعالى فلما جاءها يعني ظن أنها نار ، وهي نور ، قال وهب بن منبه : فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق ، لا تزداد النار إلا تضرما وعظما ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا ، فعجب منها ودنا وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها ، فمالت إليه فخافها [ ص: 195 ] فتأخر عنها ، ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضع أمرها على أنها مأمورة ولا يدري ما أمرها ، إلى أن : نودي أن بورك من في النار ومن حولها وفي بورك ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني قدس ، قاله ابن عباس .
الثاني : تبارك ، حكاه النقاش .
الثالث : البركة في النار ، حكاه ابن شجرة ، وأنشد لعبد الله بن الزبير:
فبورك في بنيك وفي بنيهم إذا ذكروا ونحن لك الفداء
وفي النار وجهان :
أحدهما : أنها نار فيها نور .
الثاني : أنها نور ليس فيها نار ، وهو قول الجمهور .
وفي بورك من في النار خمسة أقاويل :
أحدها : بوركت النار ، و من زيادة ، وهي في مصحف أبي : ( بوركت النار ومن حولها ) قاله مجاهد .
الثاني : بورك النور الذي في النار ، قاله ابن عيسى .
الثالث : بورك الله الذي في النور ، قاله عكرمة ، وابن جبير .
الرابع : أنهم الملائكة ، قاله السدي .
الخامس : الشجرة لأن النار اشتعلت فيها وهي خضراء لا تحترق .
وفي قوله : ومن حولها وجهان :
أحدهما : الملائكة ، قاله ابن عباس .
الثاني : موسى ، قالها أبو صخر .
وسبحان الله رب العالمين فيه وجهان :
أحدهما : أن موسى قال حين فرغ من سماع النداء من قول الله : وسبحان الله رب العالمين استعانة بالله وتنزيها له ، قاله السدي .
الثاني : أن هذا من قول الله ومعناه : وبورك فيمن يسبح الله رب العالمين ، حكاه ابن شجرة . ويكون هذا من جملة الكلام الذي نودي به موسى .
وفي ذلك الكلام قولان :
[ ص: 196 ] أحدهما : أنه كلام الله تعالى من السماء عند الشجرة وهو قول السدي . قال وهب بن منبه : ثم لم يمس موسى امرأة بعدما كلمه ربه .
والثاني : أن الله خلق في الشجرة كلاما خرج منها حتى سمعه موسى ، حكاه النقاش .
قوله تعالى : وألق عصاك قال وهب : ظن موسى أن الله أمره برفضها فرفضها .
فلما رآها تهتز كأنها جان فيه وجهان :
أحدهما : أن الجان الحية الصغيرة ، سميت بذلك لاجتنانها واستتارها .
والثاني : أنه أراد بالجان الشيطان من الجن ، لأنهم يشبهون كل ما استهولوه بالشيطان ، كما قال تعالى :طلعها كأنه رءوس الشياطين [الصافات : 65] . وقد كان انقلاب العصا إلى أعظم الحيات لا إلى أصغرها ، كما قال تعالى : فإذا هي ثعبان مبين [الأعراف : 107] و [الشعراء : 33] . قال عبد الله بن عباس : وكانت العصا قد أعطاه إياها ملك من الملائكة حين توجه إلى مدين وكان اسمها : ما شاء ، قال ابن جبير : وكانت من عوسج .
ولى مدبرا ولم يعقب فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ولم يرجع ، قاله مجاهد ، قال قطرب : مأخوذ من العقب .
الثاني : ولم ينتظر ، قاله السدي .
الثالث : ولم يلتفت ، قاله قتادة .
ويحتمل رابعا : أن يكون معناه أنه بقي ولم يمش ، لأنه في المشيء معقب لابتدائه بوضع عقبة قبل قدمه .
قوله تعالى : إني لا يخاف لدي المرسلون قيل إنه أراد في الموضع الذي يوحى فيه إليهم ، وإلا فالمرسلون من الله أخوف .
[ ص: 197 ] إلا من ظلم فيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد من غير المسلمين لأن الأنبياء لا يكون منهم الظلم ، ويكون منهم هذا الاستثناء المنقطع .
الوجه الثاني : أن الاستثناء يرجع إلى المرسلين .
وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : فيما كان منهم قبل النبوة كالذي كان من موسى في قتل القبطي ، فأما بعد النبوة فهم معصومون من الكبائر والصغائر جميعا .
الوجه الثاني : بعد النبوة فإنهم معصومون فيها مع وجود الصغائر منهم ، غير أن الله لطف بهم في توفيقهم للتوبة منها ، وهو معنى قوله تعالى : ثم بدل حسنا بعد سوء يعني توبة بعد سيئة .
فإني غفور رحيم أي غفور لذنبهم ، رحيم بقبول توبتهم .


