اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا
لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي -لعنه الله- عرف أنه كلف أمرا عظيما ، وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح ، فاستوهب ربه أن يشرح صدره ويفسح قلبه ، ويجعله حليما حمولا ، يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات ، وأن يسهل عليه في [ ص: 78 ] الجملة أمره الذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة معاظم الشؤون ومقاساة جلائل الخطوب .
فإن قلت : " لي" في قوله : اشرح لي صدري ويسر لي أمري ، ما جدواه والكلام بدونه مستتب ؟
قلت : قد أبهم الكلام أولا ، فقيل : اشرح لي ويسر لي ، فعلم أن ثم مشروحا وميسرا ، ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما ، فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره ، من أن يقول : اشرح صدري ، ويسر أمري على الإيضاح الساذج ؛ لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل ، عن : كان في لسانه رتة لما روي من حديث الجمرة ، ويروى أن يده احترقت ، وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ ، [ ص: 79 ] ولما دعاه قال : إلى أي رب تدعوني ؟ قال : إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها ، وعن بعضهم : إنما لم تبرأ يده ؛ لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المواكلة ، واختلف في زوال العقدة بكمالها ، فقيل : ذهب بعضها وبقي بعضها ؛ لقوله تعالى : ابن عباس وأخي هارون هو أفصح مني لسانا [القصص : 34 ] ، وقوله تعالى : ولا يكاد يبين [الزخرف : 52 ] ، وكان في لسان -رضي الله عنهما- رتة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ورثها من عمه موسى" الحسين بن علي ، وقيل : زالت بكمالها ؛ لقوله تعالى : قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه : 36 ] ، وفي تنكير العقدة -وإن لم يقل عقدة لساني - : أنه طلب حل بعضها ؛ إرادة أن يفهم عنه فهما جيدا ، ولم يطلب الفصاحة الكاملة ، و من لساني : صفة للعقدة ، كأنه قيل : عقدة من عقد لساني .
الوزير : من الوزر ؛ لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه ، أو من الوزر ؛ لأن الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره ، أو من المؤازرة وهي المعاونة ، عن الأصمعي قال : وكان القياس أزيرا ، فقلبت الهمزة إلى الواو ، ووجه قلبها أن فعيلا جاء في معنى : مفاعل مجيئا صالحا ؛ كقولهم : عشير ، وجليس ، وقعيد ، وخليل ، وصديق ، ونديم ، فلما قلبت في أخيه قلبت فيه ، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز ، ونظرا إلى يوازر وأخواته ، وإلى الموازرة ، "وزيرا" و "هارون " : مفعولا قوله : " واجعل " ، قدم ثانيهما على أولهما ؛ عناية بأمر الوزارة ، أو "لي وزيرا " : مفعولاه ، و "هارون" عطف بيان للوزير ، و "أخي " : في الوجهين بدل من هارون ، وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن ، قرؤوا جميعا : [ ص: 80 ] "اشدد " ، "وأشركه " : على الدعاء ، وحده : "أشدد " ، و "أشركه " : على الجواب ، وفي مصحف وابن عامر : "أخي واشدد " ، وعن ابن مسعود : "أشركه في أمري " ، "واشدد به أزري " ، ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر : أن يجعل : أبي بن كعب "أخي" مرفوعا على الابتداء ، و "اشدد به " : خبره ، ويوقف على : "هارون " ، الأزر : القوة ، وأزره : قواه ، أي : اجعله شريكي في الرسالة حتى نتعاون على عبادتك وذكرك ، فإن التعاون -لأنه مهيج الرغبات- يتزايد به الخير ويتكاثر ، إنك كنت بنا بصيرا أي : عالما بأحوالنا وبأن التعاضد مما يصلحنا ، وأن هارون نعم المعين والشاد لعضدي ، بأنه أكبر مني سنا وأفصح لسانا .