اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما ، وكانوا يتيمنون بها ، فيها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون ، ويزاولون أكثر الأمور ، ويتشاءمون بالشمال ، ولذلك سموها : الشؤمى ، كما سموا أختها اليمنى ، وتيمنوا بالسانح ، وتطيروا بالبارح ، وكان الأعسر معيبا عندهم ، وعضدت الشريعة ذلك ، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين ، وأراذلها بالشمال ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب . وجعلت اليمين لكاتب الحسنات ، والشمال لكاتب السيئات ، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه ، والمسيء أن يؤتاه بشماله ، استعيرت لجهة الخير وجانبه ، فقيل : أتاه عن اليمين ، أي : من قبل الخير وناحيته ، فصده عنه وأضله . وجاء في بعض التفاسير : "من أتاه الشيطان من جهة اليمين ، أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق ، ومن أتاه من جهة الشمال ، أتاه من قبل الشهوات ، ومن أتاه من بين يديه ، أتاه من قبل التكذيب بالقيامة [ ص: 207 ] وبالثواب والعقاب ، ومن أتاه من خلفه ، خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده ، فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة " . فإن قلت : قولهم : أتاه من جهة الخير وناحيته ، مجاز في نفسه ، فكيف جعلت اليمين مجازا عن المجاز ؟ قلت : من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى ألحق بالحقائق ، وهذا من ذاك ; ولك أن تجعلها مستعارة للقوة والقهر ; لأن اليمين موصوفة بالقوة ، وبها يقع البطش . والمعنى : أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر ، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه ، وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم ، والغواة لشياطينهم التيامن في كل شيء بل لم تكونوا مؤمنين بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه ، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر ، غير ملجئين إليه وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم بل كنتم قوما مختارين الطغيان فحق علينا فلزمنا قول ربنا إنا لذائقون يعني : وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة ، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة ، ولو حكى الوعيد كما هو ، ألا لقال : إنكم لذائقون ، لكنه عدل به إلى لفظ المتكلم ; لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم . ونحوه قول القائل [ من الوافر ] :
ألا زعمت هوازن قل مالي ولو حكى قولها لقال : قل مالك
، ومنه قول المحلف للحالف : احلف لأخرجن ، ولتخرجن ، الهمزة لحكاية لفظ الحالف ، والتاء لإقبال المحلف على المحلف "فأغويناكم " فدعونا إلى الغي دعوة محصلة للبغية ، لقبولكم لها واستجابتكم الغي على الرشد إنا كنا غاوين فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا "فإنهم " فإن الأتباع والمتبوعين جميعا "يومئذ " يوم القيامة مشتركون في العذاب ، كما كانوا مشتركين في الغواية "إنا " مثل ذلك الفعل "نفعل " بكل مجرم ، يعني أن سبب العقوبة هو الإجرام ، فمن ارتكبه استوجبها إنهم كانوا إذا سمعوا بكلمة التوحيد ، نفروا أو استكبروا عنها وأبوا إلا الشرك .