يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما
يوصيكم الله : يعهد إليكم ويأمركم ، في أولادكم : في شأن ميراثهم بما هو العدل والمصلحة ، وهذا إجمال تفصيله للذكر مثل حظ الأنثيين : فإن قلت : هلا قيل : للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر؟ قلت : ليبدأ ببيان حظ الذكر [ ص: 33 ] لفضله ، كما ضوعف حظه لذلك ، ولأن قوله : للذكر مثل حظ الأنثيين : قصد إلى بيان فضل الذكر ، وقولك : للأنثيين مثل حظ الذكر قصد إلى بيان نقص الأنثى ، وما كان قصدا إلى بيان فضله ، كان أدل على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه ، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية ، فقيل : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث ، فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به . فإن قلت : فإن حظ الأنثيين الثلثان ، فكأنه قيل : للذكر الثلثان . قلت : أريد حال الاجتماع لا الانفراد أي : إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان ، كما أن لهما سهمين ، وأما في حال الانفراد ، فالابن يأخذ المال كله والبنتان يأخذان الثلثين ، والدليل على أن الغرض حكم الاجتماع ، أنه أتبعه حكم الانفراد ، وهو قوله : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك : والمعنى للذكر منهم ، أي : من أولادكم ، فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم ، كقولهم : السمن منوان بدرهم فإن كن نساء : فإن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا . ليس معهن رجل يعني بنات ليس معهن ابن فوق اثنتين : يجوز أن يكون خبرا ثانيا لـ “كان" وأن يكون صفة لـ “نساء" أي : نساء زائدات على اثنتين وإن كانت واحدة : وإن كانت البنت أو المولودة منفردة فذة ليس معها أخرى فلها النصف : وقرئ : "واحدة" بالرفع على كان التامة والقراءة بالنصب أوفق لقوله : فإن كن نساء وقرأ "النصف" بالضم ، والضمير في زيد بن ثابت ترك للميت; لأن الآية لما كانت في الميراث ، علم أن التارك هو الميت . فإن قلت : قوله : للذكر مثل حظ الأنثيين : كلام مسوق لبيان حظ الذكر من الأولاد ، لا لبيان حظ الأنثيين ، فكيف صح أن يردف قوله : فإن كن نساء : وهو لبيان حظ الإناث؟ قلت : وإن كان مسوقا لبيان حظ الذكر ، إلا أنه لما فقه منه وتبين حظ الأنثيين مع أخيهما; كان كأنه مسوق للأمرين جميعا . فلذلك صح أن يقال : فإن كن نساء فإن قلت : هل يصح أن يكون الضميران في "كن" و "كانت" مبهمين ، ويكون "نساء" و “ واحدة" تفسيرا لهما ، على أن "كان" تامة؟ قلت : لا أبعد ذلك .
[ ص: 34 ] فإن قلت : لم قيل : فإن كن نساء ولم يقل : وإن كانت امرأة؟ قلت : لأن الغرض ثمة خلوصهن إناثا لا ذكر فيهن ، ليميز بين ما ذكر من اجتماعهن مع الذكور في قوله : للذكر مثل حظ الأنثيين : وبين انفرادهن ، وأريد هاهنا أن يميز بين كون البنت مع غيرها وبين كونها وحدها لا قرينة لها . فإن قلت : قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد ، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما ، وما باله لم يذكر؟ قلت : أما حكمهما فمختلف فيه ، أبى تنزيلهما منزلة الجماعة; لقوله تعالى : فابن عباس فإن كن نساء فوق اثنتين : فأعطاهما حكم الواحدة وهو ظاهر مكشوف ، وأما سائر الصحابة فقد أعطوهما حكم الجماعة ، والذي يعلل به قولهم ، أن قوله : للذكر مثل حظ الأنثيين : قد دل على أن حكم الأنثيين حكم الذكر ، وذلك أن الذكر كما يحوز الثلثين مع الواحدة ، فالأنثيان كذلك يحوزان الثلثين ، فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قيل : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك على معنى : فإن كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للأنثيين وهو الثلثان لا يتجاوزنه لكثرتهن ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت ، وقيل : إن الاثنتين أمس رحما بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين ، ولم يروا أن يقصروا بهما عن حظ من هو أبعد رحما منهما ، وقيل : إن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كانت أحرى أن يجب لها الثلث إذا [ ص: 35 ] كانت مع أخت مثلها ، ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضا مع أخيها لو انفردت معه ، فوجب لهما الثلثان ولأبويه : الضمير للميت ، و لكل واحد منهما : بدل من ولأبويه : بتكرير العامل ، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل : ولأبويه السدس ، لكان ظاهره اشتراكهما فيه ، ولو قيل : ولأبويه السدسان ، لأوهم قسمة السدسين عليها على التسوية وعلى خلافها . فإن قلت : فهلا قيل : ولكل واحد من أبويه السدس ، وأي فائدة في ذكر الأبوين أولا ، ثم في الإبدال منهما؟ قلت : لأن في الإبدال والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا وتشديدا ، كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير ، و “ السدس" مبتدأ ، وخبره : "لأبويه" ، والبدل متوسط بينهما للبيان ، وقرأ ونعيم بن ميسرة : "السدس" بالتخفيف ، وكذلك الثلث والربع والثمن ، والولد : يقع على الذكر والأنثى ، ويختلف حكم الأب في ذلك . فإن كان ذكرا اقتصر بالأب على السدس ، وإن كانت أنثى عصب مع إعطاء السدس . فإن قلت : قد بين حكم الأبوين في الإرث مع الولد ، ثم حكمهما مع [ ص: 36 ] عدمه ، فهلا قيل : فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث ، وأي فائدة في قوله : " وورثاه أبواه "؟ قلت : معناه : فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فحسب ، فلأمه الثلث مما ترك ، كما قال : الحسن لكل واحد منهما السدس مما ترك : لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين كان للأم ثلث ما بقي بعد إخراج نصيب الزوج ، لا ثلث ما ترك ، إلا عند ، والمعنى : أن الأبوين إذا خلصا تقاسما الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين ، فإن قلت : ما العلة في أن كان لها ثلث ما بقي دون ثلث المال؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن الزوج إنما استحق ما يسهم له بحق العقد لا بالقرابة . فأشبه الوصية في قسمة ما وراءه ، والثاني : أن الأب أقوى في الإرث من الأم ، بدليل أنه يضعف عليها إذا خلصا ويكون صاحب فرض وعصبة ، وجامعا بين الأمرين ، فلو ضرب لها الثلث كملا لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها . ألا ترى أن امرأة لو تركت زوجا وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب ، حازت الأم سهمين والأب سهما واحدا ، فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين ابن عباس فإن كان له إخوة فلأمه السدس : الإخوة يحجبون الأم عن الثلث وإن كانوا لا يرثون مع الأب ، فيكون لها السدس وللأب خمسة الأسداس ، ويستوي في الحجب الاثنان فصاعدا إلا عند ، وعنه أنهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الأم . فإن قلت : فكيف صح أن يتناول الإخوة الأخوين ، والجمع خلاف التثنية؟ قلت : الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية ، والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية ، وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق ، فدل بالإخوة عليه ، وقرئ : "فلأمه" ، بكسر الهمزة اتباعا للجرة . ألا تراها لا تكسر في قوله : ابن عباس وجعلنا ابن مريم وأمه آية : [المؤمنون : 50] من بعد وصية : متعلق بما تقدمه من كلها ، لا بما يليه وحده ، كأنه قيل : قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها ، وقرئ "يوصي بها" بالتخفيف والتشديد ، و “ ويوصى بها" على البناء للمفعول مخففا ، فإن قلت : ما معنى أو؟ قلت : معناها الإباحة ، وأنه إن كان أحدهما أو كلاهما قدم على قسمة الميراث ، كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين . فإن قلت : لم قدمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها في الشريعة؟ قلت : [ ص: 37 ] لما كانت الوصية مشبهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عوض ، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها ، فكان أداؤها مظنة للتفريط ، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه ، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين ، ولذلك جيء بكلمة "أو" للتسوية بينهما في الوجوب ، ثم أكد ذلك ورغب فيه بقوله : و قسمة المواريث آباؤكم وأبناؤكم : أي : لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون ، أمن أوصى منهم أمن لم يوص؟ يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية ، فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ، ذهابا إلى حقيقة الأمر ، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة ، إلا أنه فان ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى ، وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى ، وقيل : إن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع ، وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه ، سأل أن يرفع إليه ابنه . فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا ، وقيل : قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع ، فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة ، وقيل : الأب يجب عليه النفقة على الابن إذا احتاج ، وكذلك الابن إذا كان محتاجا فهما في النفع بالنفقة لا يدري أيهما أقرب نفعا ، وليس شيء من هذه الأقاويل بملائم للمعنى ولا مجاوب له ، لأن هذه الجملة اعتراضية ، ومن حق الاعتراضي أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه ، والقول ما تقدم فريضة : نصبت نصب المصدر المؤكد ، أي : فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما : بمصالح خلقه حكيما : في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها .