قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا ، أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين
قال الملأ الذين استكبروا من قومه استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال ، كأنه قيل : فماذا قالوا بعد ما سمعوا هذه المواعظ من شعيب عليه السلام ؟ فقيل : قال أشراف قومه المستكبرون ، متطاولين عليه عليه السلام ، غير مكتفين بمجرد الاستعصاء عليه ، والامتناع من الطاعة له ، بل بالغين من العتو والاستكبار إلى أن قصدوا استتباعه عليه السلام فيما هم فيه وأتباعه المؤمنين ، واجترءوا على إكراههم عليه بوعيد النفي ، وخاطبوه بذلك على طريقة التوكيد القسمي .
لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا بنسبة الإخراج إليه عليه السلام أولا وإلى المؤمنين ثانيا ، بعطفهم عليه تنبيها على أصالته عليه السلام في الإخراج ، وتبعيتهم له فيه ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : معك فإنه متعلق بالإخراج لا بالإيمان ، وتوسيط النداء باسمه العلمي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان ; أي : والله لنخرجنك وأتباعك .
من قريتنا بغضا لكم ودفعا لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار .
وقوله تعالى : أو لتعودن في ملتنا عطف على جواب القسم ; أي : والله ليكونن أحد الأمرين البتة ، على أن المقصد الأصلي هو العود ، وإنما ذكر النفي والإجلاء لمحض القسر والإلجاء ، كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام لجواب الإخراج ، كأنهم قالوا : لا ندعكم فيما بيننا حتى تدخلوا في ملتنا ، وإدخالهم له عليه السلام في خطاب العود مع استحالة كونه عليه السلام في ملتهم قبل ذلك ، إنما هو بطريق تغليب الجماعة على الواحد ، وإنما لم يقولوا : أو لنعيدنكم ، على طريقة ما قبله ، لما أن مرادهم أن يعودوا إليها بصورة الطواعية ، حذار الإخراج باختيار أهون الشرين ، لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب .
قال استئناف كما سبق ; أي : قال عليه السلام ردا لمقالتهم الباطلة ، وتكذيبا لهم في أيمانهم الفاجرة .
أولو كنا كارهين على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه ، لا لإنكار الواقع واستقباحه ، كالتي في قوله تعالى : أولو جئتك بشيء مبين ، ويجوز أن يكون الاستفهام فيه باقيا على حاله ، وقد مر مرارا أن كلمة " لو " في مثل هذا المقام ليست لبيان انتفاء الشيء في الزمن الماضي لانتفاء غيره فيه ، فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ، تعويلا على دلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية ، إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية ، بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق [ ص: 249 ] بالذات ، أو بالواسطة من الحكم الموجب ، أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال ، بإدخالها على أبعدها منه ، وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته ، أو انتفائه معه ثبوته ، أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية ، لما أن الشيء متى تحقق مع المنافي القوي ، فلأن يتحقق مع غيره أولى .
ولذلك لا يذكر معه شيء من سائر الأحوال ، ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها ، الشاملة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها ، وهذا معنى قولهم : إنها لاستقصاء الأحوال على سبيل الإجمال ، وهذا المعنى ظاهر في الخبر الموجب والمنفي ، والأمر والنهي ، كما في قولك : فلان جواد يعطي ولو كان فقيرا ، أو بخيل لا يعطي ولو كان غنيا ، وكقولك : أحسن إليه ولو أساء إليك ، ولا تهنه ولو أهانك ، لبقائه على حاله سالما عما يغيره .
وأما فيما نحن فيه ، ففيه نوع خفاء لتغيره بورود الإنكار عليه ، لكن الأصل في الكل واحد ، إلا أن كلمة " لو " في الصور المذكورة متعلقة بنفس الفعل المذكور قبلها ، وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو نفس مدلوله ، وأن الجملة حال من ضميره ، أو مما يتعلق به ، وأن ما في حيز " لو " مقرر على ما هو عليه من الاستبعاد ، بخلاف ما نحن فيه ، لما أن كلمة " لو " متعلقة فيه بفعل مقدر يقتضيه المذكور ، وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو مدلوله لا مدلول المذكور ، وأن الجملة حال من ضميره لا من ضمير المذكور كما سيأتي .
وأن المقصود الأصلي إنكار مدلوله من حيث مقارنته للحالة المذكورة ، وأما تقدير مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرة ، وأن ما في حيز " لو " لا يقصد استبعاده في نفسه ، بل يقصد الإشعار بأنه أمر مقرر ، إلا أنه أخرج مخرج الاستبعاد مبالغة في الإنكار من جهة أن العود مما ينكر عند كون الكراهة أمرا مستبعدا ، فكيف به عند كونها أمرا محققا ومعاملة مع المخاطبين على معتقدهم لاستنزالهم من رتبة العناد ، وليس المراد بالكراهة مجرد كراهة المؤمنين للعود في ملة الكفر ابتداء ، حتى يقال : إنها معلومة لهم ، فكيف تكون مستبعدة عندهم ، بل إنما هي كراهتهم له بعد وعيد الإخراج ، الذي جعل قرينا للقتل في قوله تعالى : ولو أنا كتبنا ... الآية ، فإنهم كانوا يستبعدونها ويطمعون في أنهم حينئذ يختارون العود خشية الإخراج ; إذ رب مكروه يختار عند حلول ما هو أشد منه وأفظع .
والتقدير : أنعود فيها لو لم نكن كارهين ، ولو كنا كارهين غير مبالين بالإكراه ; فالجملة في محل النصب على الحالية من ضمير الفعل المقدر حسبما أشير إليه ، إذ مآله أنعود فيها حال عدم الكراهة ، وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أي حالة كانت ، غير أنه اكتفي بذكر الحالة الثانية التي هي أشد الأحوال ، منافاة للعود وأكثرها بعدا منه ، تنبيها على أنها هي الواقعة في نفس الأمر ، وثقة بإغنائها عن ذكر الأولى إغناء واضحا ; لأن العود الذي تعلق به الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم ; فلأن يتحقق مع عدمها أولى ، إن قلت : النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري فيما نحن فيه بمنزلة صريح النفي .
ولا ريب في أن الأولوية هناك معتبرة بالنسبة إلى النفي ، ألا يرى أن الأولى بالتحقق فيما ذكر من مثال النفي عند الحالة المسكوت عنها ، أعني : عدم الغنى ، هو عدم الإعطاء لا نفسه ، فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند عدم الكراهة عدم العود لا نفسه ، إذ هو الذي يدل عليه قولنا : أنعود ; لأنه في معنى : لا نعود ، فلم اختلف الحال بينهما ؟
قلت : لما أن مناط الأولوية هو الحكم [ ص: 250 ] الذي أريد بيان تحققه على كل حال ، وذلك في مثال النفي عدم الإعطاء المستفاد من الفعل المنفي المذكور ، وأما فيما نحن فيه فهو نفس العود المستفاد من الفعل المقدر ; إذ هو الذي يقتضيه الكلام السابق ، أعني : قولهم : لتعودن
وأما الاستفهام فخارج عنه ، وارد عليه لإبطال ما يفيده ونفي ما يقتضيه ، لا أنه من تمامه كما في صورة النفي ، وتوضيحه أن بين النفيين فرقا معنويا تختلف به أحكامهما ، التي من جملتها ما ذكر من اعتبار الأولوية في أحدهما بالنسبة إلى نفسه ، وفي الآخر بالنسبة إلى متعلقه ; ولذلك لا تستقيم إقامة أحدهما مقام الآخر على وجه الكلية ، ألا يرى أنك لو قلت مكان أنعود فيها ... إلخ : لا نعود فيها ولو كنا كارهين ، لاختل المعنى اختلالا فاحشا ; لأن مدلول الأول نفي العود المقيد بحال الكراهة ، ومدلول الثاني تقييد العود المنفي بها ، وذلك لأن حرف النفي يباشر نفس الفعل وينفيه ، وما يذكر بعده يرجع إليه من حيث هو منفي ، وأما همزة الاستفهام فإنها تباشر الفعل بعد تقييده بما بعده ، لما أن دلالتها على الإنكار والنفي ليست بدلالة وضعية كدلالة حرف النفي ، حتى يتعلق معناها بنفس الفعل الذي يليها ، ويكون ما بعده راجعا إليه من حيث هو منفي ، بل هي دلالة عقلية مستفادة من سياق الكلام ، فلا بد أن يكون ما يذكر بعد الفعل من موانعه ودواعي إنكاره ونفيه حتما ، ليكون قرينة صارفة للهمزة عن حقيقتها إلى معنى الإنكار والنفي ، ثم لما كان المقصود نفي الحكم على كل حال مع الاقتصاد على ذكر بعض منها مغن عن ذكر ما عداها لاستلزام تحققه معه تحققه مع غيره بطريق الأولوية ، وكانت حال الكراهة عند كونها قيدا لنفس العود كذلك ; أي : مغنيا عن ذكر سائر الأحوال ، ضرورة أن تحقق العود في حال الكراهة مستلزم لتحققه في حال عدمها البتة ، وعند كونها قيدا لنفيه بخلاف ذلك ; أي : غير مغن عن ذكر غيرها ، ضرورة أن نفي العود في حال الكراهة لا يستلزم نفيه في غيرها ، بل الأمر بالعكس ; فإن نفيه في حال الإرادة مستلزم لنفيه في حال الكراهة قطعا ، استقام الأول لإفادته نفي العود في الحالتين مع الاقتصار على ما ذكر ما هو مغن عن ذكر الأخرى .
ولم يستقم الثاني لعدم إفادته إياه على الوجه المذكور ، إن قيل : فما وجه استقامتهما جميعا عند ذكر المعطوفين معا ، حيث يصح أن يقال : لا نعود فيها لو لم نكن كارهين ، كما يصح أن يقال : أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين ، مع أن المقدر في حكم الملفوظ ; قلنا : وجهها أن كلا منهما يفيد معنى صحيحا في نفسه ، لا أن معنى أحدهما عين معنى الآخر ، أو متلازمان متفقان في جميع الأحكام ، كيف لا ومدلول الأول أن العود منتف في الحالتين ، ومدلول الثاني مصحح لنفي العود في الحالتين منتف ، وكلا المعنيين صحيح في نفسه مصحح لنفي العود في الحالتين مع ذكرهما معا ، غير أن الثاني مصحح لنفي العود في الحالتين مع الاقتصار على ذكر حالة الكراهة على عكس المعنى الأول ، فإنه مصحح لنفيه فيهما مع الاقتصار على ذكر حالة الإرادة .