تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين
تلك القرى جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة لما قبلها من القصص ، منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة ، وتماديهم فيها بعد ما أتتهم الرسل بالمعجزات الباهرة ، وتلك إشارة إلى قرى الأمم المهلكة على أن اللام للعهد ، وهو مبتدأ .
وقوله تعالى : نقص عليك من أنبائها خبره ، وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد ، و" من " للتبعيض ; أي : بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير . وقيل : " تلك " مبتدأ ، و" القرى " خبره ، وما بعده حال ، أو خبر بعد خبر عند من يجوز كون الخبر الثاني جملة ، كما في قوله تعالى : فإذا هي حية تسعى .
وتصدير الكلام بذكر " القرى " وإضافة " الأنباء " إليها ، مع أن المقصوص أنباء أهلها ، والمقصود بيان أحوالهم حسبما يعرب عنه قوله تعالى : ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات لما أن حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال ، بحيث يشمل أماكنهم أيضا بالخسف بها والرجفة ، وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع .
والباء في قوله تعالى : " بالبينات " متعلقة إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية ، وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله ; أي : ملتبسين بالبينات ، لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة واحدة ، بل بينات كثيرة خاصة به ، معينة له حسب اقتضاء الحكمة ، فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد ، إنما هي فيما بين الرسل وضمير الأمم .
والجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم ; أي : وبالله لقد جاء كل أمة من تلك الأمم المهلكة رسولهم الخاص بهم بالمعجزات البينة ، المتكثرة المتواردة عليهم ، الواضحة الجلالة على صحة رسالته ، الموجبة للإيمان حتما .
وقوله تعالى : فما كانوا ليؤمنوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي ، لا لعدم استمرار إيمانهم ، وترتيب حالتهم هذه على مجيء الرسل بالبينات بالفاء ، لما أن الاستمرار على فعل من الأفعال بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه ، وإن كان استمرارا عليه في الحقيقة ، لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث ، نحو : وعظته فلم ينزجر ، ودعوته فلم يجب ، واللام لتأكيد النفي ; أي : فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات أن يؤمنوا بكل ، كان ذلك ممتنعا منهم إلى أن لقوا ما لقوا ، لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان .
ثم إن كان المحكي عنهم آخر حال كل قوم منهم ، فالمراد بعدم إيمانهم المذكور ههنا : إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي ، وبما أشير إليه بقوله تعالى : بما كذبوا من قبل تكذيبهم من لدن مجيء الرسل إلى وقت الإصرار والعناد ، وإنما لم يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول ، بل جعل صلة للموصول ، إيذانا بأنه بين بنفسه ، وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الظاهرة ، وتظاهر التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أصحاب العقول . المعجزات الباهرة
والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب سلبا وإيجابا ، عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها ، وإن كان المحكي جميع أحوال كل قوم منهم ; فالمراد بما ذكر أولا : كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل ... إلخ ، وبما أشير إليه آخرا : تكذيبهم قبل مجيئهم ; فلا بد من جعل الموصول المذكور عبارة عن أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ، ودعوا أممهم إليها آثر ذي أثير ، لاستحالة تبدلها وتغيرها ، مثل : ملة التوحيد ولوازمها .
ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء رسلهم : [ ص: 256 ] أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية ، بحيث لم يسمعوا كلمة التوحيد قط ، بل كانت كل أمة من أولئك الأمم يتسامعون بها من بقايا من قبلهم فيكذبونها ، ثم كانت حالتهم بعد مجيء رسلهم كحالتهم قبل ذلك ، كأن لم يبعث إليهم أحد .
وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول ، لظهور حال الباقي بدلالة النص ، فإنهم حين لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافة الرسل ، فلأن يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى ، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات ، لما أن ما عليه يدور فلك العذاب والعقاب هو التكذيب الواقع بعد الدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب ، وعلى كلا التقديرين فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع . وقيل : ضمير " كذبوا " راجع إلى أسلافهم ، والمعنى : فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء ، ولا يخفى ما فيه من التعسف . وقيل : المراد : ما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ، ورددناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل ، كقوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه .
وقيل : الباء للسببية وما مصدرية ; أي : بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل ، ولا يرد عليه ههنا ما ورد في سورة يونس من مخالفة الجمهور بجعل " ما " المصدرية من قبيل الأسماء ، كما هو رأي الأخفش وابن السراج ، ليرجع إليه الضمير في " به " .
كذلك ; أي : مثل ذلك الطبع الشديد المحكم .
يطبع الله على قلوب الكافرين ; أي : من المذكورين وغيرهم ، فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر ، وفيه تحذير للسامعين ، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة .