وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين
وإن لكم في الأنعام لعبرة عظيمة، وأي: عبرة تحار في دركها العقول، وتهيم في فهمها ألباب الفحول. نسقيكم استئناف لبيان ما أبهم أولا من العبرة، مما في بطونه أي: بطون الأنعام، والتذكير هنا لمراعاة جانب اللفظ، فإنه اسم جمع، ولذلك عده في المفردات المبنية على أفعال كأكباش وأخلاق. كما أن تأنيثه في سورة المؤمنين لرعاية جانب المعنى، ومن جعله جمع نعم جعل الضمير للبعض، فإن اللبن ليس لجميعها أوله على المعنى، فإن المراد به الجنس. وقرئ: بفتح النون ههنا، وفي سورة المؤمنين: سيبويه من بين فرث ودم لبنا الفرث فضالة ما يبقى من العلف في الكرش المنهضمة بعض الانهضام، وكثيف ما يبقى في المعاء. وعن رضي الله عنهما: أن البهيمة إذا اعتلفت، وانطبخ العلف في كرشها كان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما. ولعل المراد به أن أوسطه يكون مادة اللبن، وأعلاه مادة الدم الذي يغذو البدن; لأن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه، بل الكبد تجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش، ويبقى ثفله وهو الفرث، ثم يمسكها ريثما يهضمها فيحدث أخلاطا أربعة معها مائية، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين الصفراء والسوداء، وتدفعها إلى الكلية، والمرارة، والطحال. ثم توزع الباقي على الأعضاء بحسبها فتجري على كل حقه على ما يليق به بتقدير العزيز العليم. ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد، والرطوبة على مزاجها، فيندفع الزائد أولا لأجل الجنين إلى الرحم، فإذا انفصل انصب ذلك الزائد، أو بعضه إلى الضروع فيبيض لمجاورته لحومها العذوية البيض، ويلذ طعمه فيصير لبنا. ومن تدبر في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبان، وأعداد مقارها ومجاريها، والأسباب المولدة لها، وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به، اضطر إلى ابن عباس . فـ "من" الأولى تبعيضية; لما أن اللبن بعض ما في بطونه; لأنه مخلوق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما فصل. والثانية ابتدائية، كقوله: سقيت من الحوض; لأن بين الفرث والدم مبدأ الإسقاء، وهي متعلقة بنسقيكم، وتقديمه على المفعول لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير، يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكينه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر، كالذي نحن فيه، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا، وتنائيا، بحيث لا يتراءى ناراهما، فإن ذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر. [ ص: 125 ] كما في قوله تعالى: الاعتراف بكمال علمه، وقدرته، وحكمته، وتناهي رأفته ورحمته الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا أو حال من لبنا قدم عليه لتنكيره، والتنبيه على أنه موضع العبرة خالصا عن شائبة ما في الدم والفرث من الأوصاف، ببرزخ من القدرة القاهرة الحاجزة عن بغي أحدهما عليه مع كونهما مكتنفين له سائغا للشاربين سهل المرور في حلقهم، قيل: لم يغص أحد باللبن. وقرئ: (سيغا) بالتشديد، وبالتخفيف، مثل: هين وهين.