[ ص: 15 ] أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني
و"أن" في قوله تعالى : أن اقذفيه في التابوت مفسرة ، لأن الوحي من باب القول ، أو مصدرية حذف منها الباء ، أي : بأن اقذفيه . ومعنى القذف ههنا : الوضع ، وأما في قوله تعالى فاقذفيه في اليم فالإلقاء . وهذا التفصيل هو المراد بقوله تعالى : فإذا خفت عليه فألقيه في اليم لا القذف بلا تابوت . فليلقه اليم بالساحل لما كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمرا واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به ، جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر ، والضمائر كلها لموسى عليه السلام ، والمقذوف في البحر والملقى بالساحل وإن كان هو التابوت أصالة ، لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تابعا له في ذلك .
يأخذه عدو لي وعدو له جواب للأمر بالإلقاء ، وتكرير العدو للمبالغة والتصريح بالأمر ، والإشعار بأن عداوته له مع تحققها لا تؤثر فيه ولا تضره بل تؤدي إلى المحبة ، فإن الأمر بما هو سبب للهلاك صورة من قذفه في البحر ووقوعه في يد عدو الله تعالى ، وعدوه مشعر بأن هناك لطفا خفيا مندرجا تحت قهر صوري . وقيل الأول باعتبار الواقع ، والثاني باعتبار المتوقع ، وليس المراد بالساحل نفس الشاطئ بل ما يقابل الوسط ، وهو ما يلي الساحل من البحر ، بحيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون ، لما روي أنها جعلت في التابوت قطنا ووضعته فيه ، ثم قيرته وألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر صغير ، فدفعه الماء إليه فأتى به إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسا ثمة مع آسية بنت مزاحم فأمر به ، فأخرج ، ففتح ، فإذا هو صبي أصبح الناس وجها فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يكاد يتمالك الصبر عنه ، وذلك قوله تعالى وألقيت عليك محبة مني . كلمة "من" متعلقة بمحذوف ، هو صفة لمحبة مؤكدة لما في تنكيرها من الفخامة الإضافية ، أي : محبة عظيمة كائنة مني ، قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ، ولذلك أحبك عدو الله وآله . وقيل : هي متعلقة بألقيت ، أي : أحببتك ، ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوب لا محالة .
وقوله تعالى ولتصنع على عيني متعلق بألقيت ، معطوف على علة له مضمرة ، أي : ليتعطف عليك ، ولنربي بالحنو والشفقة بمراقبتي وحفظي ، أو بمضمرة مؤخر هو عبارة عما قبله من القاء المحبة ، والجملة مبتدأة ، أي : ولتصنع على عيني فعلت ذلك . وقري : "ولتصنع" على صيغة الأمر بسكون اللام وكسرها . وقرئ بفتح التاء والنصب ، أي : وليكون عملك على عين مني لئلا يخالف به عن أمري .