قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي
قال أي : السامري مجيبا له عليه السلام بصرت بما لم يبصروا به بضم الصاد فيهما ، وقرئ بكسرها في الأول وفتحها في الثاني ، وقرئ بالتاء على الوجهين على خطاب موسى عليه السلام وقومه ، أي : علمت ما لم يعلمه القوم ، وفطنت لما لم يفطنوا له ، أو رأيت ما لم يروه ، وهو الأنسب بما سيأتي من قوله : "وكذلك سولت لي نفسي" لا سيما على القراءة بالخطاب ، فإن ادعاء علم ما لم يعلمه موسى عليه السلام جرأة عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاء رؤية ما لم يره [ ص: 39 ] عليه السلام ، فإن مما يقع بحسب ما يتفق . وقد كان رأى أن جبريل عليه السلام جاء راكبا فرسا ، وكان كلما رفع الفرس يديه أو رجليه على الطريق اليبس يخرج من تحته النبات في الحال ، فعرف أن له شأنا فأخذ من موطئه حفنة ، وذلك قوله تعالى : فقبضت قبضة من أثر الرسول . وقرئ : "من آثر فرس الرسول" ، أي : من تربة موطئ فرس الملك الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور ، ولعل ذكره بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم من الأسرار الإلهية ، تأكيدا لما صدر به مقالته والتنبيه على وقت أخذ ما أخذه والقبضة : المرة من القبض ، أطلقت على المقبوض مرة . وقرئ بضم القاف وهو اسم المقبوض ، كالغرفة والمضغة . وقرئ : "فقبصت قبصة" بالصاد المهملة ، والأول للأخذ بجميع الكف ، والثاني بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم والقضم ، فنبذتها أي : في الحلي المذابة فكان ما كان .
وكذلك سولت لي نفسي أي : ما فعلته من القبض والنبذ ، فقوله تعالى : "ذلك" إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده ، ومحل "كذلك" في الأصل النصب على أنه مصدر تشبيهي ، أي : نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : سولت لي نفسي تسويلا كائنا مثل ذلك التسويل ، فقدم على الفعل لإفادة القصر ، واعتبرت الكاف مقحمة لإفادة تأكيد ما أفاده اسم الإشارة من افخامة فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له ، أي : ذلك التزيين البديع زينت لي نفسي ما فعلته لا تزيينا أدنى منه ولذلك فعلته ، وحاصل جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء وإغوائها ، لا بشيء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهي .