فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون
فأوحينا إليه عند ذلك أن اصنع الفلك "أن" مفسرة لما في الوحي من معنى القول بأعيننا ملتبسا بحفظنا وكلاءتنا ، كأن معه عليه السلام منه عز وعلا حفاظا وحراسا يكلئونه بأعينهم من التعدي أو من الزيغ في الصنعة . ووحينا وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها .
والفاء في قوله تعالى : فإذا جاء أمرنا لترتيب مضمون ما بعدها على تمام صنع الفلك ، والمراد بالأمر : العذاب ، كما في قوله تعالى : لا عاصم اليوم من أمر الله لا الأمر بالركوب كما قيل وبمجيئه كمال اقترابه أو ابتداء ظهوره ، أي : إذا جاء إثر تمام الفلك عذابنا . وقوله تعالى : وفار التنور عطف بيان لمجيء الأمر . روي أنه قيل له عليه السلام : إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام ، فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا ، واختلف في مكانه فقيل : كان في مسجد الكوفة ، أي : في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم ، وقيل : كان في عين وردة من الشام ، وقد مر تفصيله في تفسير (سورة هود ) عليه السلام .
فاسلك فيها أي : ادخل فيها ، يقال : سلك فيه ، أي : دخل فيه ، وسلكه فيه أدخله فيه ، ومنه قوله تعالى : ما سلككم في سقر . من كل أي : من كل أمة زوجين أي : فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى : اثنين فإنه نص في الفردين دون الجمعين أو الفريقين . وقرئ بالإضافة على أن المفعول اثنين ، أي : من كل أمتي زوجين ، وهما أمة الذكر وأمة الأنثى ، كالجمال والنوق والحصن والرماك ، وهذا صريح في أن الأمر كان قبل صنعه الفلك ، وفي سورة هود : حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين ، فالوجه أن يحمل إما على أنه حكاية لأمر آخر تنجيزي ورد عند فوران التنور الذي نيط به الأمر التعليقي اعتناء بشأن المأمور به ، أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه ، لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكي على صورة النجيز ، وقد مر في تفسير قوله : [ ص: 132 ] تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم .
وأهلك منصوب بفعل معطوف على "فاسلك" لا بالعطف على زوجين أو اثنين على القراءتين لأدائه إلى اختلال المعنى ، أي : واسلك أهلك ، والمراد به : امرأته وبنوه وتأخير الأمر بإدخالهم عما ذكر من ادخال الأزواج فيها لكونه عريقا فيما أمر به من الإدخال ، فإنه محتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام بل إلى معاونة من أهله وأتباعه وأما هم فإنما يدخلونها باختيارهم بعد ذلك ، ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره فتقديمه يؤدي إلى الإخلال بتجاوب أطراف النظم الكريم .
إلا من سبق عليه القول منهم أي : القول بإهلاك الكفرة ، وإنما جيء بـ "على" لكون السابق ضارا ، كما جيء باللام في قوله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى لكونه نافعا .
ولا تخاطبني في الذين ظلموا بالدعاء لإنجائهم إنهم مغرقون تعليل للنهي ، أو لما ينبئ عنه من عدم قبول الدعاء ، أي : إنهم مقضي عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ، ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه .