ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون
ولقد مكناكم في الأرض لما أمر الله سبحانه أهل مكة باتباع ما أنزل إليهم ، ونهاهم عن اتباع غيره ، وبين لهم وخامة عاقبته بالإهلاك في الدنيا ، والعذاب المخلد في الآخرة ، ذكرهم ما أفاض عليهم من فنون النعم الموجبة للشكر ; ترغيبا في الامتثال بالأمر والنهي إثر ترهيب ; أي : جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا ، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها .
وجعلنا لكم فيها معايش المعايش جمع معيشة ، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها ، أو ما يتوصل به إلى ذلك ، والوجه في قراءته إخلاص الياء ، وعن : أنه همزة تشبيها له بصحائف ومدائن . ابن عامر
والجعل بمعنى : الإنشاء والإبداع ; أي : أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعكم فيها أسبابا تعيشون بها ، وكل واحد من الظرفين متعلق به ، أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر ; إذ لو تأخر لكان صفة له ، وتقديمهما على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه ، لما مر غير مرة من الاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر ، فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم ، لا سيما عند كون المقدم منبئا عن منفعة للسامع ، تبقى مترقبة لورود المؤخر ، فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن .
وأما تقديم اللام على " في " ، فلما أنه المنبئ عما ذكر من المنفعة ، فالاعتناء بشأنه أتم ، والمسارعة إلى ذكره أهم .
هذا وقد قيل : إن الجعل متعد إلى مفعولين ، ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول ، والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل ، أو بالمحذوف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر .
وأنت خبير بأنه لا فائدة معتد بها في الإخبار بجعل المعايش حاصلة لهم ، أو حاصلة في الأرض .
وقوله تعالى : قليلا ما تشكرون ; أي : تلك النعمة ، تذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم ، وبقية الكلام فيه عين ما مر في تفسير قوله تعالى : قليلا ما تذكرون .