[ ص: 3535 ] (60)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سورة الممتحنة مدنية
وآياتها ثلاث عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=treesubj&link=27175_29435_30513_30525_30556_30883_31788_32024_32427_32431_33522_34091_34122_34200_34206_34513_8371_32423_32424_29697_11453_19864_30862_13281_26047_11005_8949_8954_15498_32682_32016_31851_28750_28802_32351_29031nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=1يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل (1)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=2إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=3لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير (3)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=4قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير (4)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=5ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم (5)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=6لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد (6)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=7عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم (7)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=8لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=9إنما ينهاكم الله عن [ ص: 3536 ] الذين قاتلوكم .في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=10يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم (10)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=11وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (11)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=12يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم (12)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=13يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور (13)
هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي والدولة في المجتمع المدني. حلقة من تلك السلسلة الطويلة، أو من ذلك المنهج الإلهي المختار للجماعة المسلمة المختارة، التي ناط بها الله تحقيق منهجه الذي يريده للحياة الإنسانية، في صورة واقعية عملية، كيما يستقر في الأرض نظاما ذا معالم وحدود وشخصية مميزة تبلغ إليه البشرية أحيانا، وتقصر عنه أحيانا، ولكنها تبقى معلقة دائما بمحاولة بلوغه; وتبقى أمامها صورة واقعية منه، تحققت يوما في هذه الأرض.
وقد اقتضى هذا - كما قلنا في أول هذا الجزء - إعدادا طويلا في خطوات ومراحل. وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة، أو تتعلق بها، مادة من مواد هذا الإعداد. مادة مقدرة في علم الله، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه.
وفي مضطرب الأحداث، وفي تيار الحياة المتدفق، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض. فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة. وكانت التربية المستمرة متجهة دائما إلى إنشاء هذا التصور الإيماني
[ ص: 3537 ] الخاص المميز، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك، وفي الجزيرة العربية بصفة خاصة. أما الناس الذين ينشأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة ومضطرب الأحداث، بل كانوا يصهرون في بوتقة الحوادث يوما بعد يوم، ومرة بعد مرة، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد والخلق الواحد مرات كثيرة، وتحت مؤثرات متنوعة; لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى. وكان يعلم أن رواسب الماضي، وجواذب الميول الطبيعية، والضعف البشري، وملامسات الواقع، وتحكم الإلف والعادة، كلها قد تكون معوقات قوية تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة. وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر، والصهر المتوالي.. فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله، وتتوالى الموعظة بها. والتحذير على ضوئها، والتوجيه بهديها، مرة بعد مرة.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس. والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه - صلى الله عليه وسلم - حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله. بتوفيق الله. على يدي رسول الله.
هذه السورة حلقة في سلسلة ذلك الإعداد الطويل، تستهدف - مع غيرها مما جاء في مثل موضوعها - إقامة عالم رباني خالص في ضمير المسلم. عالم محوره الإيمان بالله وحده، يشد المسلمين إلى هذا المحور وحده، بعروة واحدة لا انفصام لها; ويبرئ نفوسهم من كل عصبية أخرى. عصبية للقوم أو للجنس أو للأرض أو للعشيرة أو للقرابة. ليجعل في مكانها جميعا عقدة واحدة. هي عقدة الإيمان بالله. والوقوف تحت راية الله. في حزب الله.
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني. رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله. وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله - في رحاب العقيدة - وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب. وسائر ما يميز إنسانا عن إنسان، عدا عقيدة الإيمان. وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله، المتضمن كيانه نفحة من روح الله.
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة - كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم - عقبات من التعصب للبيت، والتعصب للعشيرة، والتعصب للقوم، والتعصب للجنس، والتعصب للأرض. كما تقف عقبات أخرى من رغائب النفوس وأهواء القلوب، من الحرص والشح وحب الخير للذات، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية.. وألوان غيرها كثير من ذوات الصدور!
وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة. وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل.
وكان بعض
المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى. وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل
مكة المحاسنة والمودة; وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات!
وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه.
[ ص: 3538 ] وهو - سبحانه - يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعا - وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالا بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت - فكان يأخذهم يوما بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن!
وتذكر الروايات حادثا معينا نزل فيه صدر هذه السورة. وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر. ولكن مدى النصوص القرآنية دائما أبعد من الحوادث المباشرة.
وقد قيل في هذا الحادث:
إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من المهاجرين. وكان من أهل بدر أيضا. وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا nindex.php?page=showalam&ids=7لعثمان. فلما عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: "اللهم عم عليهم خبرنا".. وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب. فعمد nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب فكتب كتابا وبعثه مع امرأة مشركة - قيل من مزينة - جاءت المدينة تسترفد - إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدا. فأطلع الله - تعالى - رسوله على ذلك استجابة لدعائه. وإمضاء لقدره في فتح مكة. فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها.
وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في المغازي، ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم في صحيحه من حديث
حصين بن عبد الرحمن، عن
سعد ابن عبيدة عن
nindex.php?page=showalam&ids=12067أبي عبد الرحمن السلمي، عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي - رضي الله عنه - قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=653684بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا مرثد nindex.php?page=showalam&ids=15والزبير بن العوام - وكلنا فارس - وقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين". فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: الكتاب؟ فقالت ما معي كتاب. فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا. فقلنا: ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتخرجن الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجته. فانطلقنا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر: يا رسول الله. قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضربن عنقه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ما حملك على ما صنعت؟" قال nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب: والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أردت أن تكون لي عند القوم يد. يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال: "صدق لا تقولوا إلا خيرا". فقال nindex.php?page=showalam&ids=2عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال: "أليس من أهل بدر؟ - فقال - : لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو - قد غفرت لكم" فدمعت عينا nindex.php?page=showalam&ids=2عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.. وزاد nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في كتاب المغازي: فأنزل الله السورة: nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=1يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة .. وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم nindex.php?page=showalam&ids=8علي nindex.php?page=showalam&ids=15والزبير nindex.php?page=showalam&ids=53والمقداد.
والوقوف قليلا أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن "ظلال القرآن" والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائد المربي العظيم..
وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة
nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سر الحملة.. وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها.
[ ص: 3539 ] ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعجل حتى يسأل:
nindex.php?page=hadith&LINKID=653684 "ما حملك على ما صنعت" في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابة عنه:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656426 "صدق لا تقولوا إلا خيرا".. ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها ولا يدع أحدا يطارده. بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر: "إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين. فدعني فلأضرب عنقه"..
فعمر - رضي الله عنه - إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم. أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية. في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف..
ثم يقف الإنسان أمام كلمات
nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح.. ذلك حين يقول: "أردت أن تكون لي عند القوم يد.. يدافع الله بها عن أهلي ومالي".. فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها. ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول: "وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدافع.. الله.. به عن أهله وماله" فهو الله حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة. إنما العشيرة أداة يدفع الله بها..
ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله - صلى الله عليه وسلم: -
nindex.php?page=hadith&LINKID=655789 "صدق. ولا تقولوا إلا خيرا"..
وأخيرا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث; وهو أن يكون
nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسر الحملة. وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة. ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين. كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع، ولا تنفج بالقول: ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا شيء. مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم ...
والحادث متواتر الرواية. أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري. ولا نستبعد صحة هذه الرواية ولكن مضمون النص القرآني - كما قلنا - أبعد مدى، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث
nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب الذي تواترت به الروايات، بمناسبة وقوع هذا الحادث، على طريقة القرآن.
كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة، وقيما جديدة، وموازين جديدة، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان، ووظيفة المؤمنين في الأرض، وغاية الوجود الإنساني.
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله; ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه، وأنه يريد بهم أمرا، ويحقق بهم قدرا. ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا. في الدنيا والآخرة. وإذن فليكونوا خالصين له، منقطعين لولايته، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته. في عالم الشعور وعالم السلوك.
[ ص: 3540 ] والسورة كلها في هذا الاتجاه. حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات، ومبايعة من يدخلن في الإسلام، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار. وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر.. فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام.
[ ص: 3535 ] (60)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ مَدَنِيَّةٌ
وَآيَاتُهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=27175_29435_30513_30525_30556_30883_31788_32024_32427_32431_33522_34091_34122_34200_34206_34513_8371_32423_32424_29697_11453_19864_30862_13281_26047_11005_8949_8954_15498_32682_32016_31851_28750_28802_32351_29031nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=1يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=2إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=3لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=4قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=5رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=6لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=7عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=8لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=9إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ [ ص: 3536 ] الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ .فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=10يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=11وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=12يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=13يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنَ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
هَذِهِ السُّورَةُ حَلْقَةٌ فِي سِلْسِلَةِ التَّرْبِيَةِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالتَّنْظِيمِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالدَّوْلَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمَدَنِيِّ. حَلْقَةٌ مِنْ تِلْكَ السِّلْسِلَةِ الطَّوِيلَةِ، أَوْ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْهَجِ الْإِلَهِيِّ الْمُخْتَارِ لِلْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ الْمُخْتَارَةِ، الَّتِي نَاطَ بِهَا اللَّهُ تَحْقِيقَ مَنْهَجِهِ الَّذِي يُرِيدُهُ لِلْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، فِي صُورَةٍ وَاقِعِيَّةٍ عَمَلِيَّةٍ، كَيْمَا يَسْتَقِرَّ فِي الْأَرْضِ نِظَامًا ذَا مَعَالِمَ وَحُدُودٍ وَشَخْصِيَّةٍ مُمَيِّزَةٍ تَبْلُغُ إِلَيْهِ الْبَشَرِيَّةُ أَحْيَانًا، وَتَقْصُرُ عَنْهُ أَحْيَانًا، وَلَكِنَّهَا تَبْقَى مُعَلَّقَةً دَائِمًا بِمُحَاوَلَةِ بُلُوغِهِ; وَتَبْقَى أَمَامَهَا صُورَةٌ وَاقِعِيَّةٌ مِنْهُ، تَحَقَّقَتْ يَوْمًا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ.
وَقَدِ اقْتَضَى هَذَا - كَمَا قُلْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ - إِعْدَادًا طَوِيلًا فِي خُطُوَاتٍ وَمَرَاحِلَ. وَكَانَتِ الْأَحْدَاثُ الَّتِي تَقَعُ فِي مُحِيطِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ تَتَعَلَّقُ بِهَا، مَادَّةً مِنْ مَوَادِّ هَذَا الْإِعْدَادِ. مَادَّةً مُقَدَّرَةً فِي عِلْمِ اللَّهِ، تَقُومُ عَلَيْهَا مَادَّةٌ أُخْرَى هِيَ التَّفْسِيرُ وَالتَّوْضِيحُ وَالتَّعْقِيبُ وَالتَّوْجِيهُ.
وَفِي مُضْطَرَبِ الْأَحْدَاثِ، وَفِي تَيَّارِ الْحَيَاةِ الْمُتَدَفِّقِ، تَمَّتْ عَمَلِيَّةُ بِنَاءِ النُّفُوسِ الْمُخْتَارَةِ لِتَحْقِيقِ ذَلِكَ الْمَنْهَجِ الْإِلَهِيِّ فِي الْأَرْضِ. فَلَمْ تَكُنْ هُنَاكَ عُزْلَةٌ إِلَّا الْعُزْلَةُ بِالتَّصَوُّرِ الْإِيمَانِيِّ الْجَدِيدِ، وَعَدَمُ خَلْطِهِ بِأَيَّةِ رُقَعٍ غَرِيبَةٍ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ التَّكْوِينِ النَّفْسِيِّ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ. وَكَانَتِ التَّرْبِيَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ مُتَّجِهَةً دَائِمًا إِلَى إِنْشَاءِ هَذَا التَّصَوُّرِ الْإِيمَانِيِّ
[ ص: 3537 ] الْخَاصِّ الْمُمَيَّزِ، الْمُنْعَزِلِ بِحَقِيقَتِهِ وَطَبِيعَتِهِ عَنِ التَّصَوُّرَاتِ السَّائِدَةِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ يَوْمَذَاكَ، وَفِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ. أَمَّا النَّاسُ الَّذِينَ يَنْشَأُ هَذَا التَّصَوُّرُ الْمُتَمَيِّزُ فِي نُفُوسِهِمْ فَلَمْ يَكُونُوا بِمَعْزِلٍ عَنْ وَاقِعِ الْحَيَاةِ وَمُضْطَرَبِ الْأَحْدَاثِ، بَلْ كَانُوا يُصْهَرُونَ فِي بَوْتَقَةِ الْحَوَادِثِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَمَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَيُعَادُ صَهْرُهُمْ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ وَالْخُلُقِ الْوَاحِدِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً، وَتَحْتَ مُؤَثِّرَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ; لِأَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ النُّفُوسَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ كُلُّهَا مِمَّا يَتَأَثَّرُ وَيَسْتَجِيبُ وَيَتَكَيَّفُ وَيَسْتَقِرُّ عَلَى مَا تُكَيِّفُ بِهِ مُنْذُ اللَّمْسَةِ الْأُولَى. وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ رَوَاسِبَ الْمَاضِي، وَجَوَاذِبَ الْمُيُولِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَالضَّعْفَ الْبَشَرِيَّ، وَمُلَامَسَاتِ الْوَاقِعِ، وَتَحَكُّمَ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ، كُلُّهَا قَدْ تَكُونُ مُعَوِّقَاتٍ قَوِيَّةً تَغْلُبُ عَوَامِلَ التَّرْبِيَةِ وَالتَّوْجِيهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. وَتَحْتَاجُ فِي مُقَاوَمَتِهَا إِلَى التَّذْكِيرِ الْمُتَكَرِّرِ، وَالصَّهْرِ الْمُتَوَالِي.. فَكَانَتِ الْأَحْدَاثُ تَتَوَالَى كَمَا هِيَ مَنْسُوقَةٌ فِي قَدَرِ اللَّهِ، وَتَتَوَالَى الْمَوْعِظَةُ بِهَا. وَالتَّحْذِيرُ عَلَى ضَوْئِهَا، وَالتَّوْجِيهُ بِهَدْيِهَا، مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُومُ فِي يَقَظَةٍ دَائِمَةٍ وَإِلْهَامٍ بَصِيرٍ، بِالْتِقَاطِ الْأَحْدَاثِ وَالْوَقَائِعِ وَالْمُنَاسَبَاتِ فِي كُلِّ فُرْصَةٍ، وَاسْتِخْدَامِهَا بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ فِي بِنَاءِ هَذِهِ النُّفُوسِ. وَالْوَحْيُ وَالْإِلْهَامُ يُؤَيِّدَانِهِ وَيُسَدِّدَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تُصْنَعَ تِلْكَ الْجَمَاعَةُ الْمُخْتَارَةُ عَلَى عَيْنِ اللَّهِ. بِتَوْفِيقِ اللَّهِ. عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ.
هَذِهِ السُّورَةُ حَلْقَةٌ فِي سِلْسِلَةِ ذَلِكَ الْإِعْدَادِ الطَّوِيلِ، تَسْتَهْدِفُ - مَعَ غَيْرِهَا مِمَّا جَاءَ فِي مِثْلِ مَوْضُوعِهَا - إِقَامَةَ عَالَمٍ رَبَّانِيٍّ خَالِصٍ فِي ضَمِيرِ الْمُسْلِمِ. عَالَمٍ مُحْوَرُهُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، يَشُدُّ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذَا الْمِحْوَرِ وَحْدَهُ، بِعُرْوَةٍ وَاحِدَةٍ لَا انْفِصَامَ لَهَا; وَيُبَرِّئُ نُفُوسَهُمْ مِنْ كُلِّ عَصَبِيَّةٍ أُخْرَى. عَصَبِيَّةٍ لِلْقَوْمِ أَوْ لِلْجِنْسِ أَوْ لِلْأَرْضِ أَوْ لِلْعَشِيرَةِ أَوْ لِلْقُرَابَةِ. لِيَجْعَلَ فِي مَكَانِهَا جَمِيعًا عُقْدَةً وَاحِدَةً. هِيَ عُقْدَةُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ. وَالْوُقُوفِ تَحْتَ رَايَةِ اللَّهِ. فِي حِزْبِ اللَّهِ.
إِنَّ الْعَالَمَ الَّذِي يُرِيدُهُ الْإِسْلَامُ عَالَمٌ رَبَّانِيٌّ إِنْسَانِيٌّ. رَبَّانِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَمِدُّ كُلَّ مُقَوِّمَاتِهِ مِنْ تَوْجِيهِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ، وَيَتَّجِهُ إِلَى اللَّهِ بِكُلِّ شُعُورِهِ وَعَمَلِهِ. وَإِنْسَانِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَشْمَلُ الْجِنْسَ الْإِنْسَانِيَّ كُلَّهُ - فِي رِحَابِ الْعَقِيدَةِ - وَتَذُوبُ فِيهِ فَوَاصِلُ الْجِنْسِ وَالْوَطَنِ وَاللُّغَةِ وَالنَّسَبِ. وَسَائِرُ مَا يُمَيِّزُ إِنْسَانًا عَنْ إِنْسَانٍ، عَدَا عَقِيدَةَ الْإِيمَانِ. وَهَذَا هُوَ الْعَالَمُ الرَّفِيعُ اللَّائِقُ أَنْ يَعِيشَ فِيهِ الْإِنْسَانُ الْكَرِيمُ عَلَى اللَّهِ، الْمُتَضَمِّنُ كِيَانُهُ نَفْحَةً مِنْ رُوحِ اللَّهِ.
وَدُونَ إِقَامَةِ هَذَا الْعَالَمِ تَقِفُ عَقَبَاتٌ كَثِيرَةٌ - كَانَتْ فِي الْبِيئَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا تَزَالُ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ إِلَى الْيَوْمِ - عَقَبَاتٌ مِنَ التَّعَصُّبِ لِلْبَيْتِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْعَشِيرَةِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْقَوْمِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْجِنْسِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَرْضِ. كَمَا تَقِفُ عَقَبَاتٌ أُخْرَى مِنْ رَغَائِبِ النُّفُوسِ وَأَهْوَاءِ الْقُلُوبِ، مِنَ الْحِرْصِ وَالشُّحِّ وَحُبِّ الْخَيْرِ لِلذَّاتِ، وَمِنَ الْكِبْرِيَاءِ الذَّاتِيَّةِ وَالِالْتِوَاءَاتِ النَّفْسِيَّةِ.. وَأَلْوَانُ غَيْرِهَا كَثِيرٌ مِنْ ذَوَاتِ الصُّدُورِ!
وَكَانَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنْ يُعَالِجَ هَذَا كُلَّهُ فِي الْجَمَاعَةِ الَّتِي يُعِدُّهَا لِتَحْقِيقِ مَنْهَجِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فِي صُورَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَاقِعَةٍ. وَكَانَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ حَلْقَةً فِي سِلْسِلَةِ هَذَا الْعِلَاجِ الطَّوِيلِ.
وَكَانَ بَعْضُ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ فِي سَبِيلِ عَقِيدَتِهِمْ، مَا تَزَالُ نُفُوسُهُمْ مَشْدُودَةً إِلَى بَعْضِ مَنْ خُلِّفُوا هُنَالِكَ مِنْ ذُرِّيَّةٍ وَأَزْوَاجٍ وَذَوِي قُرْبَى. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ مَا ذَاقُوا مِنَ الْعَنَتِ وَالْأَذَى فِي قُرَيْشٍ فَقَدْ ظَلَّتْ بَعْضُ النُّفُوسِ تَوَدُّ لَوْ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ
مَكَّةَ الْمُحَاسَنَةِ وَالْمَوَدَّةِ; وَأَنْ لَوِ انْتَهَتْ هَذِهِ الْخُصُومَةُ الْقَاسِيَةُ الَّتِي تُكَلِّفُهُمْ قِتَالَ أَهْلِيهِمْ وَذَوِي قَرَابَتِهِمْ، وَتَقْطَعُ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنْ صِلَاتٍ!
وَكَانَ اللَّهُ يُرِيدُ اسْتِصْفَاءَ هَذِهِ النُّفُوسِ وَاسْتِخْلَاصَهَا مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْوَشَائِجِ، وَتَجْرِيدَهَا لِدِينِهِ وَعَقِيدَتِهِ وَمَنْهَجِهِ.
[ ص: 3538 ] وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - يَعْلَمُ ثِقَلَ الضَّغْطِ الْوَاقِعِ عَلَيْهَا مِنَ الْمُيُولِ الطَّبِيعِيَّةِ وَرَوَاسِبِ الْجَاهِلِيَّةِ جَمِيعًا - وَكَانَ الْعَرَبُ بِطَبِيعَتِهِمْ أَشَدَّ النَّاسِ احْتِفَالًا بِعَصَبِيَّةِ الْقَبِيلَةِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْبَيْتِ - فَكَانَ يَأْخُذُهُمْ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ بِعِلَاجِهِ النَّاجِعِ الْبَالِغِ، بِالْأَحْدَاثِ وَبِالتَّعْقِيبِ عَلَى الْأَحْدَاثِ، لِيَكُونَ الْعِلَاجُ عَلَى مَسْرَحِ الْحَوَادِثِ وَلِيَكُونَ الطَّرْقُ وَالْحَدِيدُ سَاخِنٌ!
وَتَذْكُرُ الرِّوَايَاتُ حَادِثًا مُعَيَّنًا نَزَلَ فِيهِ صَدْرُ هَذِهِ السُّورَةِ. وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ صَحِيحَةً فِي سَبَبِ النُّزُولِ الْمُبَاشِرِ. وَلَكِنْ مَدَى النُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ دَائِمًا أَبْعَدُ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمُبَاشِرَةِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي هَذَا الْحَادِثِ:
إِنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ كَانَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَكَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ أَيْضًا. وَكَانَ لَهُ بِمَكَّةَ أَوْلَادٌ وَمَالٌ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْفُسِهِمْ بَلْ كَانَ حَلِيفًا nindex.php?page=showalam&ids=7لِعُثْمَانَ. فَلَمَّا عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا نَقَضَ أَهْلُهَا عَهْدَ الْحُدَيْبِيَةِ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّجْهِيزِ لِغَزْوِهِمْ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَيْهِمْ خَبَرَنَا".. وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ بِوُجْهَتِهِ، كَانَ مِنْهُمْ nindex.php?page=showalam&ids=195حَاطِبٌ. فَعَمَدَ nindex.php?page=showalam&ids=195حَاطِبٌ فَكَتَبَ كِتَابًا وَبَعَثَهُ مَعَ امْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ - قِيلَ مِنْ مُزَيْنَةَ - جَاءَتِ الْمَدِينَةَ تَسْتَرْفِدُ - إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُعْلَمِهُمْ بِعَزْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى غَزْوِهِمْ، لِيَتَّخِذَ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ يَدًا. فَأَطْلَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ اسْتِجَابَةً لِدُعَائِهِ. وَإِمْضَاءً لِقَدَرِهِ فِي فَتْحِ مَكَّةَ. فَبَعَثَ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ، فَأَخَذَ الْكِتَابَ مِنْهَا.
وَقَدْ رَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَرَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثٍ
حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ
سَعْدِ ابْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12067أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=653684بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا مَرْثَدٍ nindex.php?page=showalam&ids=15وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ - وَكُلُّنَا فَارِسٌ - وَقَالَ: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ". فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: الْكِتَابَ؟ فَقَالَتْ مَا مَعِي كِتَابٌ. فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا. فَقُلْنَا: مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ. فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَهَوَتْ إِلَى حَجْزَتِهَا، وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ، فَأَخْرَجَتْهُ. فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟" قَالَ nindex.php?page=showalam&ids=195حَاطِبٌ: وَاللَّهِ مَا بِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ. يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ. فَقَالَ: "صَدَقَ لَا تَقُولُوا إِلَّا خَيْرًا". فَقَالَ nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ: "أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ - فَقَالَ - : لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ - أَوْ - قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" فَدَمَعَتْ عَيْنَا nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.. وَزَادَ nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي: فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ: nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=1يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ .. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلُوا كَانُوا هُمْ nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٌّ nindex.php?page=showalam&ids=15وَالزُّبَيْرُ nindex.php?page=showalam&ids=53وَالْمِقْدَادُ.
وَالْوُقُوفُ قَلِيلًا أَمَامَ هَذَا الْحَادِثِ وَمَا دَارَ بِشَأْنِهِ لَا يَخْرُجُ بِنَا عَنْ "ظِلَالِ الْقُرْآنِ" وَالتَّرْبِيَةِ بِهِ وَبِالْأَحْدَاثِ وَالتَّوْجِيهَاتِ وَالتَّعْقِيبَاتِ عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَائِدِ الْمُرَبِّي الْعَظِيمِ..
وَأَوَّلُ مَا يَقِفُ الْإِنْسَانُ أَمَامَهُ هُوَ فِعْلَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=195حَاطِبٍ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْمُهَاجِرُ، وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ أَطْلَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سِرِّ الْحَمْلَةِ.. وَفِيهَا مَا يَكْشِفُ عَنْ مُنْحَنَيَاتِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ الْعَجِيبَةِ، وَتَعَرُّضِ هَذِهِ النَّفْسِ لِلَحَظَاتِ الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ مَهْمَا بَلَغَ مِنْ كَمَالِهَا وَقُوَّتِهَا وَأَنْ لَا عَاصِمَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ هَذِهِ اللَّحَظَاتِ فَهُوَ الَّذِي يُعِينُ عَلَيْهَا.
[ ص: 3539 ] ثُمَّ يَقِفُ الْإِنْسَانُ مَرَّةً أُخْرَى أَمَامَ عَظَمَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ لَا يَعْجَلُ حَتَّى يَسْأَلَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=653684 "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ" فِي سَعَةِ صَدْرٍ وَعَطْفٍ عَلَى لَحْظَةِ الضَّعْفِ الطَّارِئَةِ فِي نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَإِدْرَاكِ مُلْهَمٍ بِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ صَدَقَ، وَمِنْ ثَمَّ يَكُفُّ الصَّحَابَةَ عَنْهُ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656426 "صَدَقَ لَا تَقُولُوا إِلَّا خَيْرًا".. لِيُعِينَهُ وَيُنْهِضَهُ مِنْ عَثْرَتِهِ، فَلَا يُطَارِدُهُ بِهَا وَلَا يَدَعُ أَحَدًا يُطَارِدُهُ. بَيْنَمَا نَجِدُ الْإِيمَانَ الْجَادَّ الْحَاسِمَ الْجَازِمَ فِي شِدَّةِ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ: "إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ. فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ"..
فَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْعَثْرَةِ ذَاتِهَا فَيَثُورُ لَهَا حِسُّهُ الْحَاسِمُ وَإِيمَانُهُ الْجَازِمُ. أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا مِنْ خِلَالِ إِدْرَاكِهِ الْوَاسِعِ الشَّامِلِ لِلنَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَمِنْ كُلِّ جَوَانِبِهَا، مَعَ الْعَطْفِ الْكَرِيمِ الْمُلْهَمِ الَّذِي تُنْشِئُهُ الْمَعْرِفَةَ الْكُلِّيَّةَ. فِي مَوْقِفِ الْمُرَبِّي الْكَرِيمِ الْعَطُوفِ الْمُتَأَنِّي النَّاظِرِ إِلَى جَمِيعِ الْمُلَابَسَاتِ وَالظُّرُوفِ..
ثُمَّ يَقِفُ الْإِنْسَانُ أَمَامَ كَلِمَاتِ
nindex.php?page=showalam&ids=195حَاطِبٍ، وَهُوَ فِي لَحْظَةِ ضَعْفِهِ، وَلَكِنْ تُصَوِّرُهُ لَقَدَرِ اللَّهِ وَلِلْأَسْبَابِ الْأَرْضِيَّةِ هُوَ التَّصَوُّرُ الْإِيمَانِيُّ الصَّحِيحُ.. ذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: "أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ.. يُدَافِعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي".. فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يَدْفَعُ، وَهَذِهِ الْيَدُ لَا تَدْفَعُ بِنَفْسِهَا، إِنَّمَا يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا. وَيُؤَكِّدُ هَذَا التَّصَوُّرَ فِي بَقِيَّةِ حَدِيثِهِ وَهُوَ يَقُولُ: "وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يُدَافِعُ.. اللَّهُ.. بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ" فَهُوَ اللَّهُ حَاضِرٌ فِي تَصَوُّرِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ لَا الْعَشِيرَةُ. إِنَّمَا الْعَشِيرَةُ أَدَاةٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا..
وَلَعَلَّ حِسَّ رَسُولِ اللَّهِ الْمُلْهَمِ قَدْ رَاعَى هَذَا التَّصَوُّرَ الصَّحِيحَ الْحَيَّ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: -
nindex.php?page=hadith&LINKID=655789 "صَدَقَ. وَلَا تَقُولُوا إِلَّا خَيْرًا"..
وَأَخِيرًا يَقِفُ الْإِنْسَانُ أَمَامَ تَقْدِيرِ اللَّهِ فِي الْحَادِثِ; وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
nindex.php?page=showalam&ids=195حَاطِبٌ مِنَ الْقِلَّةِ الَّتِي يَعْهَدُ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسِرِّ الْحَمْلَةِ. وَأَنْ تُدْرِكَهُ لَحْظَةُ الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ وَهُوَ مِنَ الْقِلَّةِ الْمُخْتَارَةِ. ثُمَّ يَجْرِي قَدَرُ اللَّهِ بِكَفِّ ضَرَرِ هَذِهِ اللَّحْظَةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ. كَأَنَّمَا الْقَصْدُ هُوَ كَشْفُهَا فَقَطْ وَعِلَاجُهَا! ثُمَّ لَا يَكُونُ مِنَ الْآخَرِينَ الَّذِينَ لَمْ يُعْهَدْ إِلَيْهِمْ بِالسِّرِّ اعْتِرَاضٌ عَلَى مَا وَقَعَ، وَلَا تَنَفُجُ بِالْقَوْلِ: هَا هُوَ ذَا أَحَدُ مِنِ اسْتُودِعُوا السِّرَّ خَانُوهُ، وَلَوْ أُودِعْنَاهُ نَحْنُ مَا بُحْنَا بِهِ! فَلَمْ يُرَدْ مِنْ هَذَا شَيْءٌ. مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَدَبِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قِيَادَتِهِمْ، وَتَوَاضُعِهِمْ فِي الظَّنِّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَاعْتِبَارِهِمْ بِمَا حَدَثَ لِأَخِيهِمْ ...
وَالْحَادِثُ مُتَوَاتِرُ الرِّوَايَةِ. أَمَّا نُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِ فَهُوَ أَحَدُ رِوَايَاتِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ. وَلَا نَسْتَبْعِدُ صِحَّةَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَكِنْ مَضْمُونُ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ - كَمَا قُلْنَا - أَبْعَدُ مَدًى، وَأَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعَالِجُ حَالَةً نَفْسِيَّةً أَوْسَعَ مِنْ حَادِثِ
nindex.php?page=showalam&ids=195حَاطِبٍ الَّذِي تَوَاتَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ، بِمُنَاسَبَةِ وُقُوعِ هَذَا الْحَادِثِ، عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ.
كَانَ يُعَالِجُ مُشْكِلَةَ الْأَوَاصِرِ الْقَرِيبَةِ، وَالْعَصَبِيَّاتِ الصَّغِيرَةِ، وَحِرْصُ النُّفُوسِ عَلَى مَأْلُوفَاتِهَا الْمَوْرُوثَةِ لِيَخْرُجَ بِهَا مِنْ هَذَا الضِّيقِ الْمَحَلِّيِّ إِلَى الْأُفُقِ الْعَالَمِيِّ الْإِنْسَانِيِّ.
وَكَانَ يُنْشِئُ فِي هَذِهِ النُّفُوسِ صُورَةً جَدِيدَةً، وَقِيَمًا جَدِيدَةً، وَمَوَازِينَ جَدِيدَةً، وَفِكْرَةً جَدِيدَةً عَنِ الْكَوْنِ وَالْحَيَاةِ وَالْإِنْسَانِ، وَوَظِيفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَرْضِ، وَغَايَةِ الْوُجُودِ الْإِنْسَانِيِّ.
وَكَانَ كَأَنَّمَا يَجْمَعُ هَذِهِ النَّبْتَاتِ الصَّغِيرَةَ الْجَدِيدَةَ فِي كَنَفِ اللَّهِ; لِيُعْلِّمَهُمُ اللَّهُ وَيُبَصِّرَهُمْ بِحَقِيقَةِ وُجُودِهِمْ وَغَايَتِهِ، وَلِيَفْتَحَ أَعْيُنَهُمْ عَلَى مَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنْ عَدَاوَاتٍ وَمَكْرٍ وَكَيْدٍ، وَلِيُشْعِرَهُمْ أَنَّهُمْ رِجَالُهُ وَحِزْبُهُ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِمْ أَمْرًا، وَيُحَقِّقُ بِهِمْ قَدَرًا. وَمِنْ ثَمَّ فَهُمْ يُوسَمُونَ بِسِمَتِهِ وَيَحْمِلُونَ شَارَتَهُ، وَيُعْرَفُونَ بِهَذِهِ الشَّارَةِ وَتِلْكَ السِّمَةِ بَيْنَ الْأَقْوَامِ جَمِيعًا. فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَإِذَنْ فَلْيَكُونُوا خَالِصَيْنِ لَهُ، مُنْقَطِعِينَ لِوَلَايَتِهِ، مُتَجَرِّدِينَ مِنْ كُلِّ وَشِيجَةٍ غَيْرِ وَشِيجَتِهِ. فِي عَالَمِ الشُّعُورِ وَعَالَمِ السُّلُوكِ.
[ ص: 3540 ] وَالسُّورَةُ كُلُّهَا فِي هَذَا الِاتِّجَاهِ. حَتَّى الْآيَاتُ التَّشْرِيعِيَّةُ التَّنْظِيمِيَّةُ الْوَارِدَةُ فِي آخِرِهَا عَنْ مُعَامَلَةِ الْمُهَاجِرَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَمُبَايَعَةِ مَنْ يَدْخُلْنَ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَأَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْكُفَّارِ. وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَزَوْجَاتِهِمْ مِنَ الْكَوَافِرِ.. فَكُلُّهَا تَنْظِيمَاتٌ مُنْبَثِقَةٌ مِنْ ذَلِكَ التَّوْجِيهِ الْعَامِّ.