[ ص: 3864 ] (84) سورة الانشقاق مكية
وآياتها خمس وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا السماء انشقت (1) وأذنت لربها وحقت (2) وإذا الأرض مدت (3) وألقت ما فيها وتخلت (4) وأذنت لربها وحقت (5) يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (6) فأما من أوتي كتابه بيمينه (7) فسوف يحاسب حسابا يسيرا (8) وينقلب إلى أهله مسرورا (9) وأما من أوتي كتابه وراء ظهره (10) فسوف يدعو ثبورا (11) ويصلى سعيرا (12) إنه كان في أهله مسرورا (13) إنه ظن أن لن يحور (14) بلى إن ربه كان به بصيرا (15) فلا أقسم بالشفق (16) والليل وما وسق (17) والقمر إذا اتسق (18) لتركبن طبقا عن طبق (19) فما لهم لا يؤمنون (20) وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون (21) بل الذين كفروا يكذبون (22) والله أعلم بما يوعون (23) فبشرهم بعذاب أليم (24) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (25)
تبدأ السورة ببعض مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضت بتوسع في سورة التكوير، ثم في سورة الانفطار. ومن قبل في سورة النبإ. ولكنها هنا ذات طابع خاص. طابع الاستسلام لله. استسلام السماء واستسلام الأرض، في طواعية وخشوع ويسر: إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت ..
ذلك المطلع الخاشع الجليل تمهيد لخطاب "الإنسان" ، وإلقاء الخشوع في قلبه لربه. وتذكيره بأمره; وبمصيره الذي هو صائر إليه عنده. حين ينطبع في حسه ظل الطاعة والخشوع والاستسلام الذي تلقيه في حسه [ ص: 3865 ] السماء والأرض في المشهد الهائل الجليل: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه. فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا، وينقلب إلى أهله مسرورا، وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا، ويصلى سعيرا. إنه كان في أهله مسرورا. إنه ظن أن لن يحور. بلى إن ربه كان به بصيرا ..
والمقطع الثالث عرض لمشاهد كونية حاضرة، مما يقع تحت حس "الإنسان" لها إيحاؤها ولها دلالتها على التدبير والتقدير، مع التلويح بالقسم بها على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة، لا مفر لهم من ركوبها ومعاناتها: فلا أقسم بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق ..
ثم يجيء المقطع الأخير في السورة تعجيبا من حال الناس الذين لا يؤمنون; وهذه هي حقيقة أمرهم، كما عرضت في المقطعين السابقين. وتلك هي نهايتهم ونهاية عالمهم كما جاء في مطلع السورة: فما لهم لا يؤمنون؟ وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؟ .. ثم بيان لعلم الله بما يضمون عليه جوانحهم وتهديد لهم بمصيرهم المحتوم: بل الذين كفروا يكذبون. والله أعلم بما يوعون. فبشرهم بعذاب أليم. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. لهم أجر غير ممنون ..
إنها سورة هادئة الإيقاع، جليلة الإيحاء، يغلب عليها هذا الطابع حتى في مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضتها سورة التكوير في جو عاصف. سورة فيها لهجة التبصير المشفق الرحيم، خطوة خطوة. في راحة ويسر، وفي إيحاء هادئ عميق. والخطاب فيها: يا أيها الإنسان فيه تذكير واستجاشة للضمير.
وهي بترتيب مقاطعها على هذا النحو تطوف بالقلب البشري في مجالات كونية وإنسانية شتى، متعاقبة تعاقبا مقصودا.. فمن مشهد الاستسلام الكوني. إلى لمسة لقلب "الإنسان". إلى مشهد الحساب والجزاء. إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية. إلى لمسة للقلب البشري أخرى. إلى التعجيب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كله. إلى التهديد بالعذاب الأليم واستثناء المؤمنين بأجر غير ممنون..
كل هذه الجولات والمشاهد والإيحاءات واللمسات في سورة قصيرة لا تتجاوز عدة أسطر.. وهو ما لا يعهد إلا في هذا الكتاب العجيب! فإن هذه الأغراض يتعذر الوفاء بها في الحيز الكبير ولا تؤدى بهذه القوة وبهذا التأثير.. ولكنه القرآن ميسر للذكر; يخاطب القلوب مباشرة من منافذها القريبة. صبغة العليم الخبير!
إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت ..
وانشقاق السماء سبق الحديث عنه في سور سابقة. أما الجديد هنا فهو استسلام السماء لربها; ووقوع الحق عليها، وخضوعها لوقع هذا الحق وطاعتها:
وأذنت لربها وحقت ..
فإذن السماء لربها: استسلامها وطاعتها لأمره في الانشقاق، "وحقت".. أي وقع عليها الحق. واعترفت بأنها محقوقة لربها. وهو مظهر من مظاهر الخضوع، لأن هذا حق عليها مسلم به منها.
والجديد هنا كذلك هو مد الأرض: وإذا الأرض مدت .. وقد يعني هذا مط رقعتها وشكلها، مما ينشأ عن انقلاب النواميس التي كانت تحكمها، وتحفظها في هذا الشكل الذي انتهت إليه - والمقول إنه كروي [ ص: 3866 ] أو بيضاوي - والتعبير يجعل وقوع هذا الأمر لها آتيا من فعل خارج عنها، مما يفيده بناء الفعل للمجهول: "مدت".
وألقت ما فيها وتخلت .. وهو تعبير يصور الأرض كائنة حية تلقي ما فيها وتتخلى عنه. وما فيها كثير. منه تلك الخلائق التي لا تحصى، والتي طوتها الأرض في أجيالها التي لا يعلم إلا الله مداها. ومنه سائر ما يختبئ في جوف الأرض من معادن ومياه وأسرار لا يعلمها إلا بارئها. وقد حملت حملها هذا أجيالا بعد أجيال، وقرونا بعد قرون. حتى إذا كان ذلك اليوم: ألقت ما فيها وتخلت..
وأذنت لربها وحقت .. هي الأخرى كما أذنت السماء لربها وحقت. واستجابت لأمره مستسلمة مذعنة، معترفة أن هذا حق عليها، وأنها طائعة لربها بحقه هذا عليها..
وتبدو السماء والأرض - بهذه الآيات المصورة - ذواتي روح. وخليقتين من الأحياء. تستمعان للأمر، وتلبيان للفور، وتطيعان طاعة المعترف بالحق، المستسلم لمقتضاه، استسلاما لا التواء فيه ولا إكراه.
ومع أن المشهد من مشاهد الانقلاب الكوني في ذلك اليوم. فإن صورته هنا يظللها الخشوع والجلال والوقار والهدوء العميق الظلال. والذي يتبقى في الحس منه هو ظل الاستسلام الطائع الخاشع في غير ما جلبة ولا معارضة ولا كلام!
وفي هذا الجو الخاشع الطائع يجيء النداء العلوي للإنسان، وأمامه الكون بسمائه وأرضه مستسلما لربه هذا الاستسلام: