ونجد مجتمعا تؤكل فيه الأموال بالباطل في المعاملات الربوية. وتغتصب فيه الحقوق. وتجحد فيه الأمانات.
وتكثر فيه الغارات على الأموال والأرواح. ويقل فيه العدل فلا يناله إلا الأقوياء. كما لا تنفق فيه الأموال إلا رئاء الناس، اجتلابا للمفاخر، ولا ينال الضعاف المحاويج فيه من هذا الإنفاق ما ينال الأقوياء الأغنياء! وليست هذه سوى بعض ملامح الجاهلية - وهي التي تصدت لها هذه السورة - ووراءها ما صورته السور الأخرى، وما تحفل به أخبار هذه الجاهلية في العرب ، وفيمن حولهم من الأمم "
..
إنه لم يكن - قطعا - مجتمعا بلا فضائل. فقد كانت له فضائله، التي تهيأ بها لاستقبال هذه الرسالة الكبرى.
ولكن هذه الفضائل إنما استنقذها الإسلام استنقاذا، ووجهها الوجهة البناءة. وكانت - لولا الإسلام - مضيعة تحت ركام هذه الرذائل، مفرقة غير متجمعة، وضائعة غير موجهة. وما كانت هذه الأمة لتقدم للبشرية شيئا ذا قيمة، لولا هذا المنهج، الذي جعل يمحو ملامح الجاهلية الشائهة، وينشئ أو يثبت ملامح الإسلام الوضيئة، ويستنقذ فضائل هذه الأمة المضيعة المطمورة المفرقة المبددة، شأنها في هذا شأن سائر أمم الجاهلية التي عاصرتها، والتي اندثرت كلها، لأنها لم تدركها رسالة ولم تنشئها عقيدة! من تلك الجاهلية، التي هذه بعض ملامحها، التقط الإسلام المجموعة التي قسم الله لها الخير، وقدر أن يسلمها قيادة البشر، فكون منها الجماعة المسلمة، وأنشأ بها المجتمع المسلم. ذلك المجتمع الذي بلغ إلى القمة التي لم تبلغها البشرية قط، والتي ما تزال أملا للبشرية، يمكن أن تحاوله، حين يصح منها العزم على انتهاج الطريق.
وفي هذه السورة نجد بعض الملامح التي يتوخى المنهج الإسلامي إنشاءها وتثبيتها في المجتمع المسلم ، بعد تطهيره من رواسب الجاهلية، وإنشاء الأوضاع والتشريعات التنفيذية، التي تكفل حماية هذه الملامح وتثبيتها في الواقع الاجتماعي.
نجد في مستهلها تقريرا لحقيقة الربوبية ووحدانيتها، ولحقيقة الإنسانية ووحدة أصلها الذي أنشأها منه ربها، ولحقيقة قيامها على قاعدة الأسرة، واتصالها بوشيجة الرحم، مع استجاشة هذه الروابط كلها في الضمير البشري، واتخاذها ركيزة لتنظيم المجتمع الإسلامي على أساسها، وحماية الضعفاء فيه عن طريق التكافل بين الأسرة الواحدة، ذات الخالق الواحد، وحماية هذا المجتمع من الفاحشة والظلم والفتنة وتنظيم الأسرة [ ص: 559 ] المسلمة والمجتمع المسلم، والمجتمع الإنساني كله، على أساس وحدة الربوبية ووحدة البشرية : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إن الله كان عليكم رقيبا .. وهذه الحقيقة الكبيرة التي تتضمنها آية الافتتاح تمثل قاعدة أصيلة في التصور الإسلامي، تقوم عليها الحياة الجماعية. نرجو أن نعرض لها بالتفصيل في مكانها من سياق السورة.
ونجد التشريعات العملية لتحقيق البناء التكافلي للجماعة مستندة إلى تلك الركيزة:
في نجد التوجيه الموحي، والتحذير المخيف، والتشريع المحدد الأصول: حماية اليتامى وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (آية 2)..
وابتلوا اليتامى، حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا، وبدارا أن يكبروا. ومن كان غنيا فليستعفف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم. وكفى بالله حسيبا .. (آية 6) وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم. فليتقوا الله، وليقولوا قولا سديدا. إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا، وسيصلون سعيرا (9 - 10) ..
وفي خاصة - يتيمات صغيرات ونساء مستضعفات - وحفظ حقهن جميعا في الميراث، وفي الكسب، وفي حقهن في أنفسهن، واستنقاذهن من عسف الجاهلية، وتقاليدها الظالمة المهينة.. نجد أمثال هذه التوجيهات والتشريعات المنوعة الكثيرة: حماية الإناث وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء، مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا . وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (3 - 4) ..
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون. مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (آية 7)..
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة - وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج، وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا. أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض، وأخذن منكم ميثاقا غليظا؟ (19 - 21).. ..
ويستفتونك في النساء. قل: الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، وترغبون أن تنكحوهن. والمستضعفين من الولدان، وأن تقوموا لليتامى بالقسط. وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما .. (آية 127) ..
وفي تنظيم الأسرة، وإقامتها على أساس ثابت من موحيات الفطرة، وتوفير الحماية لها من تأثير الملابسات العارضة في جو الحياة الزوجية والحياة الاجتماعية.. ترد مثل هذه التوجيهات والتنظيمات - بالإضافة إلى ما ورد منها في ثنايا الحديث عن اليتيمات والمطلقات - : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف. إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا حرمت عليكم أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم، وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم، [ ص: 560 ] وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف - إن الله كان غفورا رحيما والمحصنات من النساء - إلا ما ملكت أيمانكم - كتاب الله عليكم. وأحل لكم - ما وراء ذلكم - أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين. فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. إن الله كان عليما حكيما (22 - 24) ..
الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم. فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، إن الله كان عليا كبيرا وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، إن الله كان عليما خبيرا .. (34 - 35) ..
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا، والصلح خير، وأحضرت الأنفس الشح، وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته، وكان الله واسعا حكيما .. (128 - 130) ..
وفي تنظيم علاقات الميراث والتكافل بين أفراد الأسرة الواحدة وبين الموالي والأولياء الذين كانوا متعاقدين قبل نزول تشريعات النسب، وإبطال التبني، ترد هذه المبادئ الجامعة وهذه التشريعات المحددة، ذات الأهداف الاجتماعية البعيدة: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (آية 7) ..
يوصيكم الله في أولادكم: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف. ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك - إن كان له ولد - فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث. فإن كان له إخوة فلأمه السدس - من بعد وصية يوصي بها أو دين - آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا. فريضة من الله، إن الله كان عليما حكيما ولكم نصف ما ترك أزواجكم - إن لم يكن لهن ولد - فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن - من بعد وصية يوصين بها أو دين - ولهن الربع مما تركتم - إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم - من بعد وصية توصون بها أو دين - وإن كان رجل يورث كلالة، أو امرأة، وله أخ أو أخت، فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث - من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار - وصية من الله والله عليم حليم .. (11 - 12) ..
يستفتونك. قل الله يفتيكم في الكلالة: إن امرؤ هلك ليس له ولد، وله أخت فلها نصف ما ترك. وهو يرثها إن لم يكن لها ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك. وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين. يبين الله لكم أن تضلوا، والله بكل شيء عليم .. (آية 176) ..
ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون، والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم. إن الله كان على كل شيء شهيدا .. (آية 33) ..
وفي حماية المجتمع من الفاحشة ، وتوفير أسباب الإحصان والوقاية.. نجد مثل هذه التنظيمات: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت، أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما، إن الله كان توابا رحيما .. (15 - 16) ..
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت [ ص: 561 ] أيمانكم من فتياتكم المؤمنات. والله أعلم بإيمانكم، بعضكم من بعض. فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان. فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب. ذلك لمن خشي العنت منكم. وأن تصبروا خير لكم، والله غفور رحيم يريد الله ليبين لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم والله عليم حكيم .. (25 - 26) ..
وفي تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم كله وإقامتها على التكافل والتراحم والتناصح، والأمانة، والعدل، والسماحة والمودة، والإحسان.. ترد توجيهات وتشريعات شتى - إلى جانب ما ذكرنا من قبل - نذكر منها هنا على سبيل المثال بضعة نماذج ولا نستقصيها فستأتي كلها في مكانها من سياق السورة: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما، وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (آية 5) ..
وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا .. (آية 8)
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا، وكان ذلك على الله يسيرا .. (29 - 30) ..
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض. للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن. واسألوا الله من فضله. إن الله كان بكل شيء عليما .. (آية 32) ..
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا. وبالوالدين إحسانا، وبذي القربى، واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا .. (36 - 38)
.. إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. إن الله نعما يعظكم به. إن الله كان سميعا بصيرا .. (آية 58) ..
من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا .. (85 - 86) ..
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ.. ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابا عظيما .. (92 - 93)
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط، شهداء لله، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين. إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما. فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا. وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا .. (آية 135) ..
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم. وكان الله سميعا عليما إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء، فإن الله كان عفوا قديرا .. (148 - 149) ..
إلى جانب ذلك الهدف الكبير في تنظيم المجتمع المسلم على أساس التكافل والتراحم والتناصح والتسامح، والأمانة والعدل والمودة والطهارة ومحو الرواسب المتخلفة فيه من الجاهلية وإنشاء وتثبيت الملامح الجديدة الوضيئة.. نجد هدفا آخر لا يقل عنه عمقا ولا أثرا في حياة المجتمع المسلم - إن لم يكن هو الأساس الذي يقوم عليه الهدف الأول - ذلك هو تحديد معنى الدين، وحد الإيمان، وشرط الإسلام، وربط كل الأنظمة والتشريعات التي تحكم حياة الفرد وحياة المجتمع بذلك المعنى المحدد للدين، وهذا التعريف المضبوط للإيمان والإسلام.