الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ونأخذ بعد هذا الإجمال في مواجهة النصوص بالتفصيل :

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس. إن الله لا يهدي القوم الكافرين قل: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم. وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا، فلا تأس على القوم الكافرين إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى .. من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلا خوف [ ص: 938 ] عليهم ولا هم يحزنون . .

                                                                                                                                                                                                                                      إنه الأمر الجازم الحاسم للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه كاملا ، وألا يجعل لأي اعتبار من الاعتبارات حسابا وهو يصدع بكلمة الحق . . هذا ، وإلا فما بلغ وما أدى وما قام بواجب الرسالة . . والله يتولى حمايته وعصمته من الناس ، ومن كان الله له عاصما فماذا يملك له العباد المهازيل !

                                                                                                                                                                                                                                      إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم ! إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة ; وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء ; وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل ; فإن كلمة الحق في العقيدة لا تملق الأهواء ; ولا تراعي مواقع الرغبات ; إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ . .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلمة الحق في العقيدة حين تصدع تصل إلى مكامن القلوب التي يكمن فيها الاستعداد للهدى . . وحين تجمجم لا تلين لها القلوب التي لا استعداد فيها للإيمان ; وهي القلوب التي قد يطمع صاحب الدعوة في أن تستجيب له لو داهنها في بعض الحقيقة !

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله لا يهدي القوم الكافرين . .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذن فلتكن كلمة الحق حاسمة فاصلة كاملة شاملة . . والهدى والضلال إنما مناطهما استعداد القلوب وتفتحها ، لا المداهنة ولا الملاطفة على حساب كلمة الحق أو في كلمة الحق !

                                                                                                                                                                                                                                      إن القوة والحسم في إلقاء كلمة الحق في العقيدة ، لا يعني الخشونة والفظاظة ; فقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة - وليس هنالك تعارض ولا اختلاف بين التوجيهات القرآنية المتعددة - والحكمة والموعظة الحسنة لا تجافيان الحسم والفصل في بيان كلمة الحق . فالوسيلة والطريقة إلى التبليغ شيء غير مادة التبليغ وموضوعه . والمطلوب هو عدم المداهنة في بيان كلمة الحق كاملة في العقيدة ، وعدم اللقاء في منتصف الطرق في الحقيقة ذاتها . فالحقيقة الاعتقادية ليس فيها أنصاف حلول . .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنذ الأيام الأولى للدعوة كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة في طريقة التبليغ ، وكان يفاصل مفاصلة كاملة في العقيدة ، فكان مأمورا أن يقول : يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون.. فيصفهم بصفتهم ; ويفاصلهم في الأمر ، ولا يقبل أنصاف الحلول التي يعرضونها عليه ، ولا يدهن فيدهنون ، كما يودون ! ولا يقول لهم : إنه لا يطلب إليهم إلا تعديلات خفيفة فيما هم عليه ، بل يقول لهم : إنهم على الباطل المحض ، وإنه على الحق الكامل . . فيصدع بكلمة الحق عالية كاملة فاصلة ، في أسلوب لا خشونة فيه ولا فظاظة . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا النداء ، وهذا التكليف ، في هذه السورة :

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - والله يعصمك من الناس.. إن الله لا يهدي القوم الكافرين . .

                                                                                                                                                                                                                                      يبدو من السياق - قبل هذا النداء وبعده - أن المقصود به مباشرة هو مواجهة أهل الكتاب بحقيقة ما هم عليه ، وبحقيقة صفتهم التي يستحقونها بما هم عليه . . ومواجهتهم بأنهم ليسوا على شيء . . ليسوا على شيء من الدين ولا العقيدة ولا الإيمان . . ذلك أنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ومن ثم فلا شيء مما يدعونه لأنفسهم من أنهم أهل كتاب وأصحاب عقيدة وأتباع دين :

                                                                                                                                                                                                                                      قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم.. . [ ص: 939 ] وحينما كلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بأنهم ليسوا على شيء من الدين والعقيدة والإيمان . . بل ليسوا على شيء أصلا يرتكن عليه ! حينما كلف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمواجهتهم هذه المواجهة الحاسمة الفاصلة ، كانوا يتلون كتبهم ; وكانوا يتخذون لأنفسهم صفة اليهودية أو النصرانية ; وكانوا يقولون : إنهم مؤمنون . . ولكن التبليغ الذي كلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم به ، لم يعترف لهم بشيء أصلا مما كانوا يزعمون لأنفسهم ، لأن "الدين " ، ليس كلمات تقال باللسان ; وليس كتبا تقرأ وترتل ; وليس صفة تورث وتدعى . إنما الدين منهج حياة . منهج يشمل العقيدة المستسرة في الضمير ، والعبادة الممثلة في الشعائر ، والعبادة التي تتمثل في إقامة نظام الحياة كلها على أساس هذا المنهج . . ولما لم يكن أهل الكتاب يقيمون الدين على قواعده هذه ، فقد كلف "الرسول " - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بأنهم ليسوا على دين ; وليسوا على شيء أصلا من هذا القبيل !

                                                                                                                                                                                                                                      وإقامة التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ، مقتضاها الأول الدخول في دين الله الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمنوا بكل رسول ويعزروه وينصروه . وصفة محمد وقومه عندهم في التوراة وعندهم في الإنجيل - كما أخبر الله وهو أصدق القائلين - فهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم : (سواء كان المقصود بقوله : وما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن - كما يقول بعض المفسرين - أو هو الكتب الأخرى التي أنزلت لهم كزبور داود ) . . نقول إنهم لا يقيمون التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم إلا أن يدخلوا في الدين الجديد ، الذي يصدق ما بين يديهم ويهيمن عليه . . فهم ليسوا على شيء - بشهادة الله سبحانه - حتى يدخلوا في الدين الأخير . . والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كلف أن يواجههم بهذا القرار الإلهي في شأنهم ; وأن يبلغهم حقيقة صفتهم وموقفهم ; وإلا فما بلغ رسالة ربه . . ويا له من تهديد !

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الله - سبحانه - يعلم أن مواجهتهم بهذه الحقيقة الحاسمة ، وبهذه الكلمة الفاصلة ، ستؤدي إلى أن تزيد كثيرا منهم طغيانا وكفرا ، وعنادا ولجاجا . . ولكن هذا لم يمنع من أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يواجههم بها ; وألا يأسى على ما يصيبهم من الكفر والطغيان والضلال والشرود بسبب مواجهتهم بها ; لأن حكمته - سبحانه - تقتضي أن يصدع بكلمة الحق ; وأن تترتب عليها آثارها في نفوس الخلق . فيهتدي من يهتدي عن بينة ، ويضل من يضل عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة :

                                                                                                                                                                                                                                      وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا، فلا تأس على القوم الكافرين . .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الله - سبحانه - يرسم للداعية بهذه التوجيهات منهج الدعوة ; ويطلعه على حكمة الله في هذا المنهج ، ويسلي قلبه عما يصيب الذين لا يهتدون ، إذا هاجتهم كلمة الحق فازدادوا طغيانا وكفرا ; فهم يستحقون هذا المصير البائس ; لأن قلوبهم لا تطيق كلمة الحق ; ولا خير في أعماقها ولا صدق . فمن حكمة الله أن تواجه بكلمة الحق ; ليظهر ما كمن فيها وما بطن ; ولتجهر بالطغيان والكفر ; ولتستحق جزاء الطغاة والكافرين !

                                                                                                                                                                                                                                      ونعود إلى قضية الولاء والتناصر والتعاون بين المسلمين وأهل الكتاب على ضوء هذا التبليغ الذي كلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ضوء نتائجه التي قدر الله أن تكون في زيادة الكثيرين منهم طغيانا وكفرا . . فماذا نجد . . ؟ [ ص: 940 ] نجد أن الله - سبحانه - يقرر أن أهل الكتاب ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . وحتى يدخلوا في الدين الأخير تبعا لهذه الإقامة كما هو بديهي من دعوتهم إلى الإيمان بالله والنبي . في المواضع الأخرى المتعددة . . فهم إذن لم يعودوا على "دين الله " ولم يعودوا أهل "دين " يقبله الله .

                                                                                                                                                                                                                                      ونجد أن مواجهتهم بهذه الحقيقة قد علم الله أنها ستزيد الكثيرين منهم طغيانا وكفرا . . ومع هذا فقد أمر رسوله أن يواجههم بها دون مواربة . ودون أسى على ما سيصيب الكثيرين منها !

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا نحن اعتبرنا كلمة الله في هذه القضية هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يبق هنالك موضع لاعتبار أهل الكتاب . . أهل دين . . يستطيع "المسلم " أن يتناصر معهم فيه للوقوف في وجه الإلحاد والملحدين ; كما ينادي بعض المخدوعين وبعض الخادعين ! فأهل الكتاب لم يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم حتى يعتبرهم المسلم "على شيء " وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره الله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . . وكلمة الله باقية لا تغيرها الملابسات والظروف !

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا نحن اعتبرنا كلمة الله هي كلمة الفصل - كما هو الحق والواقع - لم يكن لنا أن نحسب حسابا لأثر المواجهة لأهل الكتاب بهذه الحقيقة ، في هياجهم علينا ، وفي اشتداد حربهم لنا ، ولم يكن لنا أن نحاول كسب مودتهم بالاعتراف لهم بأنهم على دين نرضاه منهم ونقرهم عليه ، ونتناصر نحن وإياهم لدفع الإلحاد عنه ، كما ندفع الإلحاد عن ديننا الذي هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله - سبحانه - لا يوجهنا هذا التوجيه . ولا يقبل منا هذا الاعتراف . ولا يغفر لنا هذا التناصر . ولا التصور الذي ينبعث التناصر منه . لأننا حينئذ نقرر لأنفسنا غير ما يقرر ، ونختار في أمرنا غير ما يختار ، ونعترف بعقائد محرفة أنها "دين " إلهي ، يجتمع معنا في آصرة الدين الإلهي . . والله يقول : إنهم ليسوا على شيء ، حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم . . وهم لا يفعلون !

                                                                                                                                                                                                                                      والذين يقولون : إنهم مسلمون - ولا يقيمون ما أنزل إليهم من ربهم - هم كأهل الكتاب هؤلاء . ليسوا على شيء كذلك . فهذه كلمة الله عن أهل أي كتاب لا يقيمونه في نفوسهم وفي حياتهم سواء . والذي يريد أن يكون مسلما يجب عليه - بعد إقامة كتاب الله في نفسه وفي حياته - أن يواجه الذين لا يقيمونه بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموه . وأن دعواهم أنهم على دين ، يردها عليهم رب الدين . فالمفاصلة في هذا الأمر واجبة ; ودعوتهم إلى "الإسلام " من جديد هي واجب "المسلم " الذي أقام كتاب الله في نفسه وفي حياته . فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاما ، ولا تحقق إيمانا ، ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين الله ، في أي ملة ، وفي أي زمان !

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد أن يستجيب هؤلاء أو أولئك ; ويقيموا كتاب الله في حياتهم يملك "المسلم " أن يتناصر معهم في دفع غائلة الإلحاد والملحدين ، عن "الدين " وعن "المتدينين " . . فأما قبل ذلك فهو عبث ; وهو تمييع ، يقوم به خادع أو مخدوع !

                                                                                                                                                                                                                                      إن دين الله ليس راية ولا شعارا ولا وراثة ! إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء . تتمثل في عقيدة تعمر القلب ، وشعائر تقام للتعبد ، ونظام يصرف الحياة . . ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل ; ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم . . وكل اعتبار [ ص: 941 ] غير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة ، وخداع للضمير ; لا يقدم عليه "مسلم " نظيف الضمير !

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى "المسلم " أن يجهر بهذه الحقيقة ويفاصل الناس كلهم على أساسها ; ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة . والله هو العاصم . والله لا يهدي القوم الكافرين . .

                                                                                                                                                                                                                                      وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ; ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس ، إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة ; ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته ، بلا مجاملة ولا مداهنة . . فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء ، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه ، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تماما غير ما هم عليه . . يدعوهم إلى نقلة بعيدة ، ورحلة طويلة ، وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم . . فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه . . ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة . .

                                                                                                                                                                                                                                      وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق ، وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم . . حين يفعل صاحب الدعوة هذا - مراعاة للظروف والملابسات ، وحذرا من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم - فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم ، لأنه لم يعرفهم حقيقة المطلوب منهم كله ، وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه الله تبليغه !

                                                                                                                                                                                                                                      إن التلطف في دعوة الناس إلى الله ، ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية ، لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها . . إن الحقيقة يجب أن تبلغ إليهم كاملة . أما الأسلوب فيتبع المقتضيات القائمة ، ويرتكز على قاعدة الحكمة والموعظة الحسنة . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد ينظر بعضنا اليوم - مثلا - فيرى أن أهل الكتاب هم أصحاب الكثرة العددية وأصحاب القوة المادية . وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض ، وهم أصحاب كلمة مسموعة ، في الشؤون الدولية . وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة . وينظر فيرى الذين يقولون : إنهم مسلمون ليسوا على شيء لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنزل إليهم . . فيتعاظمه الأمر ، ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها بكلمة الحق الفاصلة ، ويرى عدم الجدوى في أن يبلغ الجميع أنهم ليسوا على شيء ! وأن يبين لهم "الدين " الحق !

                                                                                                                                                                                                                                      وليس هذا هو الطريق . . إن الجاهلية هي الجاهلية - ولو عمت أهل الأرض جميعا - وواقع الناس كله ليس بشيء ما لم يقم على دين الله الحق ، وواجب صاحب الدعوة هو واجبه لا تغيره كثرة الضلال ; ولا ضخامة الباطل . . فالباطل ركام . . وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة : أنهم ليسوا على شيء . . كذلك ينبغي أن تستأنف . . وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وناداه :

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته - والله يعصمك من الناس. إن الله لا يهدي القوم الكافرين قل: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وينتهي هذا المقطع بالبيان الأخير عن "الدين " الذي يقبله الله من الناس ، أيا كان وصفهم وعنوانهم وما كانوا عليه قبل بعثة النبي الأخير ; والذي يلتقي عليه المتفرقون في الملل والنحل فيما غبر من التاريخ : [ ص: 942 ] إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والصابئون، والنصارى .. من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا.. فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين آمنوا هم المسلمون . والذين هادوا هم اليهود . والصابئون هم في الغالب تلك الفئة التي تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعبدت الله وحده على غير نحلة معينة ، ومنهم من العرب أفراد معدودون . والنصارى هم أتباع المسيح عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      والآية تقرر أنه أيا كانت النحلة ، فإن من آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا - ومفهوم ضمنا في هذا الموضع ، وتصريحا في مواضع أخرى أنهم فعلوا ذلك على حسب ما جاء به الرسول الأخير - فقد نجوا : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . ولا عليهم مما كانوا فيه قبل ذلك ; ولا مما يحملون من أسماء وعنوانات . . فالمهم هو العنوان الأخير . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الذي نقرر أنه مفهوم من الآية ضمنا يعتبر من "المعلوم من الدين بالضرورة " . فمن بديهيات هذه العقيدة ، أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم النبيين ، وأنه أرسل إلى البشر كافة ، وأن الناس جميعا - على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم واعتقاداتهم وأجناسهم وأوطانهم - مدعوون إلى الإيمان بما جاء به ، وفق ما جاء به ; في عمومه وفي تفصيلاته . وأن من لا يؤمن به رسولا ، ولا يؤمن بما جاء به إجمالا وتفصيلا ، فهو ضال لا يقبل الله منه ما كان عليه من دين قبل هذا الدين ، ولا يدخل في مضمون قوله تعالى : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه هي الحقيقة الأساسية "المعلومة من الدين بالضرورة " التي لا يجوز للمسلم الحق أن يجمجم فيها أو يتمتم ; أمام ضخامة الواقع الجاهلي الذي تعيش فيه البشرية . والتي لا يجوز للمسلم أن يغفلها في إقامة علاقاته بأهل الأرض قاطبة ; من أصحاب الملل والنحل . فلا يحمله ضغط الواقع الجاهلي على اعتبار أحد من أصحاب هذه الملل والنحل على "دين " يرضاه الله ; ويصلح أن يتناصر معه فيه ويتولاه !

                                                                                                                                                                                                                                      إنما الله هو الولي ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون مهما تكن ظواهر الأمور . . ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - على أساس هذا الدين الذي هو وحده الدين - فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . لا خوف عليهم في الدنيا ولا في الآخرة . . لا خوف عليهم من قوى الباطل والجاهلية المتراكمة . ولا خوف عليهم من أنفسهم المؤمنة العاملة الصالحة . . ولا هم يحزنون . . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية