على أنه تبقى في النفس بقية من الحديث عن قوله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ..
إن تصور الحقيقة التي يقررها هذا النص وأمثاله في القرآن الكريم من النصوص التي تتعلق بالتعامل والارتباط بين مشيئة الله - سبحانه - واتجاهات البشر ; وما يصيبهم من الهدى والضلال، وما ينالهم بعد ذلك من جزاء وثواب وعقاب.. إن هذا كله يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني! وكل ما ثار من الجدل بشأن هذه القضية سواء في تاريخ الفكر الإسلامي، وبخاصة بين المعتزلة وأهل السنة والمرجئة - أو في تاريخ اللاهوت والفلسفة - وكل القضايا والتعبيرات عنها، موسومة بطابع المنطق الذهني.
إن تصور هذه الحقيقة يحتاج إلى استخدام منطقة أخرى من مناطق الإدراك البشري وراء منطقة المنطق الذهني. وكذلك يقتضي التعامل مع " الواقع الفعلي " لا مع " القضايا الذهنية " . فالقرآن يصور الحقيقة الفعلية في الكينونة البشرية وفي الوجود الواقع ; وهذه الحقيقة يتراءى فيها التشابك بين وقدره وبين مشيئة الله في محيط لا يدركه المنطق الذهني كله. إرادة الإنسان وعمله.
فإذا قيل: إن إرادة الله تدفع الإنسان دفعا إلى الهدى أو الضلال.. لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية. وإذا قيل: إن إرادة الإنسان هي التي تقرر مصيره كله.. لم تكن هذه هي الحقيقة الفعلية كذلك! إن الحقيقة الفعلية تتألف من نسب دقيقة - وغيبية كذلك - بين طلاقة المشيئة الإلهية وسلطانها الفاعل، وبين اختيار العبد واتجاهه الإرادي. بلا تعارض بين هذه وتلك ولا تصادم..
ولكن تصور الحقيقة " الفعلية " كما هي في واقعها هذا لا يمكن أن يتم في حدود المنطق الذهني. وفي شكل القضايا الذهنية والعبارة البشرية عنها.. إن نوع الحقيقة هو الذي يحدد منهج تناولها وأسلوب التعبير عنها.. وهذه الحقيقة لا يصلح لها منهج المنطق الذهني ولا القضايا الجدلية.
كذلك يحتاج تصور هذه الحقيقة كما هي في واقعها الفعلي إلى تذوق كامل في تجربة روحية وعقلية.. إن الذي تتجه فطرته إلى الإسلام يجد في صدره انشراحا له.. هو من صنع الله قطعا.. فالانشراح حدث لا يقع إلا بقدر من الله يخلقه ويبرزه. والذي تتجه فطرته إلى الضلال يجد في صدره ضيقا وتقبضا وعسرا.. هو من صنع الله قطعا.. لأنه حدث لا يتم وقوعه الفعلي إلا بقدر من الله يخلقه ويجري به كذلك.. وكلاهما من إرادة الله بالعبد.. ولكنها ليست إرادة القهر. إنما هي الإرادة التي أنشأت السنة الجارية النافذة من أن يبتلى هذا الخلق المسمى بالإنسان بهذا القدر من الإرادة. وأن يجري قدر الله بإنشاء ما يترتب على استخدامه لهذا القدر من الإرادة في الاتجاه للهدى أو للضلال.
[ ص: 1205 ] وحين توضع قضية ذهنية في مواجهة قضية ذهنية. وحين يتم التعامل مع هذه القضايا، بدون استصحاب الملامسة الباطنية للحقيقة ، والتجربة الواقعية في التعامل معها، فإنه لا يمكن أبدا أن يتم تصور كامل وصحيح لهذه الحقيقة.. وهذا ما وقع في الجدل الإسلامي.. وفي غيره كذلك!
إنه لا بد من منهج آخر ومن تذوق مباشر للتعامل مع هذه الحقيقة الكبيرة..
ثم نعود إلى السياق القرآني:
إن هذه الموجة بجملتها تجيء كالتعقيب على قضية الذبائح التي سبق بيانها ; فترتبط هذه بتلك، حزمة واحدة في السياق، وحزمة واحدة في الشعور، وحزمة واحدة في بناء هذا الدين. فقضية الذبائح هي قضية التشريع. وقضية التشريع هي قضية الحاكمية. وقضية الحاكمية هي قضية الإيمان.. ومن هنا يكون على هذا النحو في موضعه المطلوب. الحديث عن الإيمان
ثم يجيء التعقيب الأخير في هذا المقطع يربط هذه وتلك الرباط الأخير.. فهذه وتلك صراط الله المستقيم. والخروج في واحدة منهما هو الخروج عن هذا الصراط المستقيم. والاستقامة عليهما معا.. العقيدة والشريعة.. هي الاستقامة على الصراط المؤدي إلى دار السلام، وولاية الله لعباده الذاكرين:
وهذا صراط ربك مستقيما. قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون. لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون ..
هذا هو الصراط.. صراط ربك.. بهذه الإضافة المطمئنة الموحية بالثقة ; المبشرة بالنهاية.. هذه هي سنته في الهدى والضلال ; وتلك هي كلاهما سواء في شريعته في الحل والحرمة. وكلاهما لحمة في سياق قرآنه. ميزان الله،
وقد فصل الله آياته وبينها. ولكن الذين يتذكرون ولا ينسون ولا يغفلون هم الذين ينتفعون بهذا البيان وهذا التفصيل. فالقلب المؤمن قلب ذاكر لا يغفل. وقلب منشرح مبسوط مفتوح. وقلب حي يستقبل ويستجيب.
والذين يتذكرون، لهم دار السلام عند ربهم.. دار الطمأنينة والأمان. مضمونة عند ربهم لا تضيع.. وهو وليهم وناصرهم وراعيهم وكافلهم.. ذلك بما كانوا يعملون.. فهو الجزاء على النجاح في الابتلاء.
ومرة أخرى نجدنا أمام حقيقة ضخمة من حقائق هذه العقيدة. حيث يتمثل صراط الله المستقيم في الحاكمية والشريعة. ومن ورائهما يتمثل الإيمان والعقيدة.. إنها طبيعة هذا الدين كما يقررها رب العالمين..