يسألونك عن الأنفال. قل: الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ..
ذكرنا من قبل في التعريف الإجمالي بالسورة جانبا من الروايات التي وردت عن نزول هذه الآيات.
ونضيف هنا إليها بعض الروايات زيادة في استحضار الجو الذي نزلت فيه السورة جملة، والذي نزلت فيه الآيات الخاصة بالغنائم والأنفال بوجه خاص واستحضار الملامح الواقعية للجماعة المسلمة في أول وقعة كبيرة بعد قيام الدولة المسلمة في المدينة.
قال ابن كثير في التفسير: روى أبو داود والنسائي وابن جرير واللفظ له - وابن مردويه - وابن حبان من طرق عن والحاكم داود بن أبي هند عن عن عكرمة قال: ابن عباس بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا " . فتسارع في ذلك شبان القوم، وبقي الشيوخ تحت الرايات. فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا رداء لكم، لو انكشفتم لفئتم إلينا. فتنازعوا، فأنزل الله تعالى: يسألونك عن الأنفال ... إلى قوله:
وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين .. وقال لما كان يوم عن الثوري، عن الكلبي، أبي صالح، عن قال: ابن عباس، بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " . فجاء أبو اليسير بأسيرين، فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنت وعدتنا.
فقام فقال: يا رسول الله، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر، ولا جبن عن العدو، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك. سعد بن عبادة
فتشاجروا، ونزل القرآن: يسألونك عن الأنفال قل: الأنفال لله والرسول ... قال: ونزل القرآن: [ ص: 1473 ] واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ... إلى آخر الآية ... لما كان يوم
وروى الإمام قال: حدثنا أحمد أبو معاوية، حدثنا عن أبو إسحق الشيباني، محمد بن عبيد الله الثقفي.
عن قال: سعد بن أبي وقاص، بدر، وقتل أخي عمير، قتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه. وكان يسمى ذا الكثيفة. فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " اذهب فاطرحه في القبض " قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي. قال: فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اذهب فخذ سلبك " . لما كان يوم
وقال الإمام أيضا: حدثنا أحمد أسود بن عامر، أخبرنا عن أبو بكر، عن عاصم بن أبي النجود، عن مصعب ابن سعد، سعد بن مالك، قال: يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول .. ورواه قلت يا رسول الله، قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف. فقال: " إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه " . قال: فوضعته ثم رجعت، فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي. قال: فإذا رجل يدعوني من ورائي. قال: قلت: قد أنزل الله في شيئا؟ قال: " كنت سألتني السيف، وليس هو لي، وإنه قد وهب لي، فهو لك " . قال: " وأنزل الله هذه الآية: أبو داود والترمذي من طرق عن والنسائي أبي بكر بن عياش به، وقال حسن صحيح. الترمذي:
فهذه الروايات تصور لنا الجو الذي تنزلت فيه آيات الأنفال.. ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين، وشاركوهم ديارهم وأموالهم، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم: يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .. ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها. لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء وكان الناس - يومئذ - حريصين على هذه الشهادة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن الله سبحانه وتعالى، في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين! ..
ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكرهم الله سبحانه به، وردهم إليه.. ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر حتى أحسوا ذلك في مثل ما قاله رضي الله عنه - : " فينا - أصحاب عبادة بن الصامت - بدر - نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. " .
ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولا وعملا. نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها، فلم يعد الأمر حقا لهم يتنازعون عليه إنما أصبح فضلا من الله عليهم يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه ... وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل، الذي بدأ بهذه الآيات، واستطرد فيما تلاها كذلك.
يسألونك عن الأنفال. قل: الأنفال لله والرسول. فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله، إن كنتم مؤمنين ..
لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال، هو الهتاف بتقوى الله.. وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب.. إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا، والنزاع عليها - وإن كان [ ص: 1474 ] هذا النزاع متلبسا هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء - إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى.. إن قلبا لا يتعلق بالله، يخشى غضبه ويتلمس رضاه، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض، ولا يملك أن يرف شاعرا بالانطلاق! إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة.. وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها:
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ..
وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة الله ورسوله:
وأطيعوا الله ورسوله .
وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال. فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق، وارتدت ملكيتها ابتداء لله والرسول، فانتهى حق التصرف فيها إلى الله والرسول. فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم الله وقسم رسول الله طيبة قلوبهم، راضية نفوسهم وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم، ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم.. ذلك:
إن كنتم مؤمنين ..
فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية. يتجلى فيها، ليثبت وجوده، ويترجم عن حقيقته. وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " . ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيرا في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتعريف الإيمان وتحديده وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان، أو تمنيا لا واقعية له في عالم العمل والواقع.
ثم يعقب بتقرير صفات الإيمان " الحق " كما يريده رب هذا الدين ليحدد لهم ما يعنيه قوله تعالى:
إن كنتم مؤمنين .. فها هو ذا الإيمان الذي يريده منهم رب هذا الدين:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ..
إن التعبير القرآني دقيق في بنائه اللفظي ليدل دلالة دقيقة على مدلوله المعنوي. وفي العبارة هنا قصر بلفظ:
" إنما " . وليس هنالك مبرر لتأويله - وفيه هذا الجزم الدقيق - ليقال: إن المقصود هو " الإيمان الكامل " ! فلو شاء الله - سبحانه - أن يقول هذا لقاله. إنما هو تعبير محدد دقيق الدلالة. إن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وأعمالهم ومشاعرهم هم المؤمنون. فغيرهم ممن ليس له هذه الصفات بجملتها ليسوا بالمؤمنين. والتوكيد في آخر الآيات: أولئك هم المؤمنون حقا يقرر هذه الحقيقة. فغير المؤمنين " حقا " لا يكونون مؤمنين أصلا.. والتعبيرات القرآنية يفسر بعضها بعضا. والله يقول: فماذا بعد الحق إلا الضلال فما لم يكن حقا فهو الضلال. وليس المقابل لوصف: " المؤمنون حقا " هو المؤمنون إيمانا غير كامل! ولا يجوز أن يصبح التعبير القرآني الدقيق عرضة لمثل هذه التأويلات المميعة لكل تصور ولكل تعبير! [ ص: 1475 ] لذلك كان السلف يعرفون من هذه الآيات أن من لم يجد في نفسه وعمله هذه الصفات لم يجد الإيمان، ولم يكن مؤمنا أصلا.. جاء في تفسير ابن كثير: قال علي ابن طلحة عن في قوله: ابن عباس، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم قال: المنافقون: لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون، ولا يصلون إذا غابوا (أي عن أعين الناس) ولا يؤدون زكاة أموالهم. فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين. ثم وصف الله المؤمنين فقال: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم فأدوا فرائضه. وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا يقول: زادتهم تصديقا، وعلى ربهم يتوكلون يقول: لا يرجون غيره.
وسنرى من طبيعة هذه الصفات أنه لا يمكن أن يقوم بدونها الإيمان أصلا وأن الأمر فيها ليس أمر كمال الإيمان أو نقصه إنما هو أمر وجود الإيمان أو عدمه.
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ...
إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر بالله في أمر أو نهي فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته ويتمثل عظمة الله ومهابته، إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة ... أو هي كما قالت رضي الله عنها - فيما رواه أم الدرداء - عن الثوري ، عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عن شهر بن حوشب، قالت: " الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى. أم الدرداء
قالت: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك. فإن الدعاء يذهب ذلك " ..
إنها حال ينال القلب منها أمر يحتاج إلى الدعاء ليستريح منها ويقر! وهي الحال التي يجدها القلب المؤمن حين يذكر بالله في صدد أمر أو نهي فيأتمر معها وينتهي كما يريد الله، وجلا وتقوى لله.
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا .
والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيمانا، وما ينتهي به إلى الاطمئنان.. إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، ولا يحول بينه وبينه شيء إلا الكفر الذي يحجبه عن القلب ويحجب القلب عنه فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن، ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان تبلغ إلى الاطمئنان .. وكما أن إيقاعات القرآن على القلب المؤمن تزيده إيمانا، فإن القلب المؤمن هو الذي يدرك هذه الإيقاعات التي تزيده إيمانا.. لذلك يتكرر في القرآن تقرير هذه الحقيقة في أمثال قوله تعالى:
" إن في ذلك لآية للمؤمنين " .. " إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون " .. ومن ذلك قول أحد الصحابة - رضوان الله عليهم - : كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن..