الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا الإيمان كانوا يجدون في القرآن ذلك المذاق الخاص، يساعدهم عليه ذلك الجو الذي كانوا يتنسمونه وهم يعيشون القرآن فعلا وواقعا ولا يزاولونه مجرد تذوق وإدراك! وفي الروايات الواردة في نزول الآية قول سعد بن مالك وقد طلب أن ينفله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف، قبل أن ينزل القرآن الذي يرد ملكية الأنفال للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيتصرف فيها بما يريد. وقد قال له: " إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه " فلما نودي سعد من ورائه بعد وضعه السيف وانصرافه، توقع أن يكون الله - سبحانه - قد أنزل فيه شيئا قال: " قلت: قد أنزل الله في شيئا " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 1476 ] " كنت سألتني السيف وهو ليس لي، وإنه قد وهب لي، فهو لك " .. فهكذا كانوا يعيشون مع ربهم، ومع هذا القرآن الذي يتنزل عليهم. وهو شيء هائل. وهي فترة عجيبة في حياة البشر. ومن ثم كانوا يتذوقون القرآن هذا التذوق.. كما أن قيامهم بالحركة الواقعية في ظل التوجيهات القرآنية المباشرة كان يجعل التفاعل مع هذا التذوق مضاعفا.. وإذا كانت الأولى لا تتكرر في حياة البشر فإن هذه الثانية تتكرر كلما قامت في الأرض عصبة مؤمنة تحاول بالحركة أن تنشئ هذا الدين في واقع الناس كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تنشئه.. وهذه العصبة المؤمنة التي تتحرك بهذا القرآن لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الناس هي التي تتذوق هذا القرآن وتجد في تلاوته ما يزيد قلوبها إيمانا لأنها ابتداء مؤمنة. الدين عندها هو الحركة لإقامة هذا الدين بعد الجاهلية التي عادت فطغت على الأرض جميعا! وليس الإيمان عندها بالتمني، لكن ما وقر في القلب وصدقه العمل! وعلى ربهم يتوكلون ..

                                                                                                                                                                                                                                      عليه وحده.. كما يفيده بناء العبارة. لا يشركون معه أحدا يستعينون به ويتوكلون عليه.. أو كما عقب عليها الإمام ابن كثير في التفسير: " أي لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد ابن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان " ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله وإخلاص العبادة له دون سواه فما يمكن أن يجتمع في قلب واحد، توحيد الله والتوكل على أحد معه سبحانه. والذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد أو على سبب يجب أن يبحثوا ابتداء في قلوبهم عن الإيمان بالله! وليس الاتكال على الله وحده بمانع من اتخاذ الأسباب. فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها. إن الذي ينشئ النتائج - كما ينشئ الأسباب - هو قدر الله. ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن.. اتخاذ السبب عبادة بالطاعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله.. وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد ظلت الجاهلية " العلمية! " الحديثة تلج فيما تسميه " حتمية القوانين الطبيعية " . ذلك لتنفي " قدر الله " وتنفي " غيب الله " . حتى وقفت في النهاية عن طريق وسائلها وتجاربها ذاتها، أمام غيب الله وقدر الله وقفة العاجز عن التنبؤ الحتمي! ولجأت إلى نظرية " الاحتمالات " في عالم المادة. فكل ما كان حتميا صار احتماليا. وبقي " الغيب " سرا مختوما. وبقي قدر الله هو الحقيقة الوحيدة المستيقنة وبقي قول الله - سبحانه - لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا هو القانون الحتمي الوحيد، الذي يتحدث بصدق عن طلاقة المشيئة الإلهية من وراء القوانين الكونية التي يدبر الله بها هذا الكون، بقدره النافذ الطليق! يقول سير جيمس جينز الإنجليزي الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات:

                                                                                                                                                                                                                                      " لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقا واحدا، وهو الطريق الذي رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول، وأن لا مناص من أن الحالة (أ) تتبعها الحالة (ب) .. أما العلم الحديث فكل ما يستطيع أن يقوله حتى الآن، هو أن [ ص: 1477 ] الحالة (أ) يحتمل أن تتبعها الحالة (ب) أو (ج) أو (د) أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر. نعم إن في استطاعته أن يقول: إن حدوث الحالة (ب) أكثر أحتمالا من حدوث الحالة (ج) وإن الحالة (ج) أكثر احتمالا من (د) ... وهكذا. بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات (ب) و (ج) و (د) بعضها بالنسبة إلى بعض. ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين: أي الحالات تتبع الأخرى. لأنه يتحدث دائما عما يحتمل. أما ما يجب أن يحدث، فأمره موكول إلى الأقدار. مهما تكن حقيقة هذه الأقدار " ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة، لم يعد هناك محل فيه للتوكل على غير الله ابتداء. وقدر الله هو الذي يحدث كل ما يحدث. وهو وحده الحقيقة المستيقنة. والأسباب الظاهرة لا تنشئ إلا احتمالات ظنية! .. وهذه هي النقلة الضخمة التي ينقلها الاعتقاد الإسلامي للقلب البشري - وللعقل البشري أيضا - النقلة التي تخبطت الجاهلية الحديثة ثلاثة قرون لتصل إلى أولى مراحلها من الناحية العقلية ولم تصل إلى شيء منها في الناحية الشعورية، وما يترتب عليها من نتائج عملية خطيرة في التعامل مع قدر الله والتعامل مع الأسباب والقوى الظاهرية! .. إنها نقلة التحرر العقلي، والتحرر الشعوري، والتحرر السياسي، والتحرر الاجتماعي، والتحرر الأخلاقي ... إلى آخر أشكال التحرر وأوضاعه ... وما يمكن أن يتحرر " الإنسان " أصلا إذا بقي عبدا للأسباب " الحتمية " وما وراءها من عبوديته لإرادة الناس. أو عبوديته لإرادة (الطبيعة!) فكل " حتمية " غير إرادة الله وقدره، هي قاعدة لعبودية لغير الله وقدره.. ومن ثم هذا التوكيد على التوكل على الله وحده، واعتباره شرطا لوجود الإيمان أو عدمه.. والتصور الاعتقادي في الإسلام كل متكامل. ثم هو بدوره كل متكامل مع الصورة الواقعية التي يريدها هذا الدين لحياة الناس .

                                                                                                                                                                                                                                      الذين يقيمون الصلاة ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا نرى للإيمان صورة حركية ظاهرة - بعد ما رأيناه في الصفات السابقة مشاعر قلبية باطنة - ذلك أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل. فالعمل هو الدلالة الظاهرة للإيمان التي لا بد من ظهورها للعيان، لتشهد بالوجود الفعلي لهذا الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      وإقامة الصلاة ليست هي مجرد أدائها. إنما هي الأداء الذي يحقق حقيقتها. الأداء الكامل اللائق بوقفة العابد في حضرة المعبود - سبحانه - لا مجرد القراءة والقيام والركوع والسجود والقلب غافل! وهي في صورتها الكاملة تلك تشهد للإيمان بالوجود فعلا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومما رزقناهم ينفقون ..

                                                                                                                                                                                                                                      في الزكاة وغير الزكاة.. وهم ينفقون " مما رزقناهم " .. فهو بعض مما رزقهم الرازق.. وللنص القرآني دائما ظلاله وإيحاءاته. فهم لم يخلقوا هذا المال خلقا. إنما هو مما رزقهم الله إياه - من بين ما رزقهم وهو كثير لا يحصى - فإذا أنفقوا فإنما ينفقون بعضه، ويحتفظون منه ببقية. والأصل هو رزق الله وحده! تلك هي الصفات التي حدد الله بها - في هذا المقام - الإيمان. وهي تشمل الاعتقاد في وحدانية الله والاستجابة الوجدانية لذكره والتأثر القلبي بآياته والتوكل عليه وحده وإقامة الصلاة له، والإنفاق من بعض رزقه.. [ ص: 1478 ] وهي لا تمثل تفصيلات الإيمان - كما وردت في النصوص الأخرى - إنما هي تواجه حالة واقعة.. حالة الخلاف على الأنفال وفساد ذات البين من جرائها.. فتذكر من صفات المؤمنين ما يواجه هذه الحالة. وهي في الوقت ذاته تعين صفات من فقدها جملة لم يجد حقيقة الإيمان فعلا. بغض النظر عما إذا كانت تستقصي شروط الإيمان أو لا تستقصيها. فمنهج التربية الرباني بالقرآن هو الذي يتحكم فيما يذكر من هذه الشروط والتوجيهات في مواجهة الحالات الواقعية المختلفة. ذلك أنه منهج واقعي عملي حركي، لا منهج نظري معرفي، مهمته بناء (نظرية) وعرضها لذاتها! وعلى نفس القاعدة يجيء التعقيب الأخير:

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك هم المؤمنون حقا، لهم درجات عند ربهم، ومغفرة، ورزق كريم ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه الصفات إنما يجدها في نفسه وفي عمله المؤمن الحق. فمن لم يجدها جملة لم يجد صفة الإيمان. وهي في الوقت ذاته تواجه الحالة التي تنزلت فيها الآيات.. ومن ثم تواجه الحرص على الشهادة بحسن البلاء، بأن هؤلاء الذين يجدون هذه الصفات " لهم درجات عند ربهم " .. وتواجه ما وقع في ذات البين من سوء أخلاق - كما قال عبادة بن الصامت - بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم " مغفرة " .. وتواجه ما وقع من نزاع على الأنفال بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم " رزق كريم " .. فتغطي الحالة كلها، كل ما لابسها من مشاعر ومواقف. وتقرر في الوقت ذاته حقيقة موضوعية وهي أن هذه صفات المؤمنين، من فقدها جملة لم يجد حقيقة الإيمان.

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك هم المؤمنون حقا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقدكانت العصبة المسلمة الأولى تعلم أن للإيمان حقيقة لا بد أن يجدها الإنسان في نفسه، وأنه ليس الإيمان دعوى، ولا كلمات لسان، ولا هو بالتمني.. قال الحافظ الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا أبو كريب، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السكسكي، عن سعيد ابن أبي هلال، عن محمد بن أبي الجهم، عن الحارث بن مالك الأنصاري، أنه مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " كيف أصبحت يا حارث؟ " قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: " انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ " فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري.

                                                                                                                                                                                                                                      وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا. وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها. وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: " يا حارث. عرفت فالزم " .. ثلاثا ...
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بالمعرفة من حال نفسه، ما يصور مشاعره ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة. فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزا، وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتضاغون فيها، لا ينتهي إلى مجرد النظر. إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها. ذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره، وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزا ...

                                                                                                                                                                                                                                      إن حقيقة الإيمان يجب أن ينظر إليها بالجد الواجب فلا تتميع حتى تصبح كلمة يقولها لسان، ومن ورائها واقع يشهد شهادة ظاهرة بعكس ما يقوله اللسان! إن التحرج ليس معناه التميع! والشعور بجدية الحقيقة الإيمانية أوجب والتحرج في تصورها ألزم. وبخاصة في قلوب العصبة المؤمنة التي تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع، التي غلبت عليها الجاهلية، وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة! [ ص: 1479 ] بعد ذلك يأخذ سياق السورة في الحديث عن الموقعة التي تخلفت عنها تلك الأنفال التي تنازعوا عليها، وساءت أخلاقهم فيها - كما يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه في خلوص وصراحة ووضوح - ويستعرض مجمل أحداثها وملابساتها، ومواقفهم فيها، ومشاعرهم تجاهها ... فيتبين من هذا الاستعراض أنهم هم لم يكونوا فيها إلا ستارا لقدر الله وأن كل ما كان فيها من أحداث، وكل ما نشأ عنها من نتائج - بما فيها هذه الأنفال التي تنازعوا عليها - إنما كان بقدر الله وتوجيهه وتدبيره وعونه ومدده.. أما ما أرادوه هم لأنفسهم من الغزوة فقد كان شيئا صغيرا محدودا، لا يقاس إلى ما أراده الله لهم، وبهم، من هذا الفرقان العظيم في السماوات وفي الأرض. ذلك الذي اشتغل به الملأ الأعلى إلى جانب ما اشتغل به الناس في الأرض، وما اشتغل به التاريخ البشري على الإطلاق.. ويذكرهم أن فريقا منهم واجه المعركة كارها كما أن فريقا منهم كره تقسيم الأنفال وتنازع فيها ليروا أن ما يرونه هم، وما يكرهونه أو يحبونه، ليس بشيء إلى جانب ما يريده الله سبحانه ويقضي فيه بأمره، وهو يعلم عاقبة الأمور:

                                                                                                                                                                                                                                      كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.. إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين. وما جعله الله إلا بشرى، ولتطمئن به قلوبكم، وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم. إذ يغشيكم النعاس أمنة منه، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم، ويثبت به الأقدام. إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب. ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد رد الله الأنفال كلها إلى الله والرسول، ليعيد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قسمتها بينهم على السواء - بعد استبقاء الخمس الذي ستأتي فيما بعد مصارفه - ذلك لتخلص نفوس العصبة المؤمنة من كل ملابسات الغنيمة فيمتنع التنازع عليها، ويصير حق التصرف فيها إلى رسول الله كما يعلمه الله، فلا يبقى في النفوس من أجلها شيء وليذهب ما حاك في نفوس الفئة التي حازت الغنائم، ثم سويت مع الآخرين في القسمة على ما تقدم.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ضرب الله هذا المثل من إرادتهم هم لأنفسهم، ومن إرادة الله لهم، وبهم، ليستيقنوا أن الخيرة فيما اختاره الله في الأنفال وغير الأنفال وأن الناس لا يعلمون إلا ما بين أيديهم والغيب عنهم محجوب..

                                                                                                                                                                                                                                      ضرب لهم هذا المثل من واقعهم الذي بين أيديهم.. من المعركة ذاتها تلك التي يتقاسمون أنفالها.. فما الذي كانوا يريدونه لأنفسهم فيها؟ وما الذي أراده الله لهم، وبهم؟ وأين ما أرادوه مما أراده الله؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها نقلة بعيدة في واقع الأمر ونقلة بعيدة على مد الرؤية والتصور! كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون .. [ ص: 1480 ] إن رد الأنفال لله والرسول، وقسمتها بينهم على السواء، وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية.. ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها.. إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك - بالحق - لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة وكراهة بعض المؤمنين للقتال.. وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة - من كتب السيرة - أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس معه في أمر القتال، بعد ما أفلتت القافلة، وتبين أن قريشا قد جاءت بشوكتها وقوتها. وأن المقداد بن عمرو قام فقال: يا رسول الله، امض لأمر الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ... إلخ " . وأن هذا كان كلام المهاجرين. فلما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم، فقام سعد بن معاذ فقال كلاما طويلا قاطعا مطمئنا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر، والذي قاله المقداد، والذي قاله سعد بن معاذ - رضي الله عنهم - لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقد كره بعضهم القتال، وعارض فيه، لأنهم لم يستعدوا لقتال، إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير فلما أن علموا أن قريشا قد نفرت بخيلها ورجلها، وشجعانها وفرسانها، كرهوا لقاءها كراهية شديدة، هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة:

                                                                                                                                                                                                                                      كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ! روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره - بإسناده - عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بالمدينة: " إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها؟ " فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا. فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: " ما ترون في قتال القوم؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم! " فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير! ثم قال: " ما ترون في قتال القوم؟ " فقلنا مثل ذلك: فقال المقداد بن عمرو: إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ... فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمرو أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم! قال: فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - : " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون " .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا ما حاك في نفوس فريق من المسلمين يومئذ، وما كرهوا من أجله القتال، حتى ليقول عنهم القرآن الكريم:

                                                                                                                                                                                                                                      كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون .. وذلك بعد ما تبين الحق، وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار بعد ما أفلتت إحدى الطائفتين وهي - العير - وأن عليهم أن يلقوا الطائفة الأخرى، وقد قدر الله لهم لقاءها وقدر أنها ستكون لهم. كانت ما كانت. كانت العير أو كانت النفير. كانت الضعيفة التي لا شوكة لها أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإنها لحال تتكشف فيها النفس البشرية أمام الخطر المباشر ويتجلى فيها أثر المواجهة الواقعية - على الرغم [ ص: 1481 ] من الاعتقاد القلبي - والصورة التي يرسمها القرآن هنا جديرة بأن تجعلنا نتواضع في تقديرنا لمتطلبات الاعتقاد في مواجهة الواقع فلا نغفل طاقة النفس البشرية وذبذباتها عند المواجهة ولا نيئس من أنفسنا ولا من النفس البشرية جملة حين نراها تهتز في مواجهة الخطر - على الرغم من طمأنينة القلب بالعقيدة - فحسب هذه النفس أن تثبت بعد ذلك وتمضي في الطريق، وتواجه الخطر فعلا، وتنتصر على الهزة الأولى! .. لقد كان هؤلاء هم أهل بدر، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر اطلاعة، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم " .. وهذا يكفي..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد بقيت العصبة المسلمة تود أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذا ما أرادته العصبة المسلمة لأنفسها يومذاك. أما ما أراده الله لهم، وبهم، فكان أمرا آخر:

                                                                                                                                                                                                                                      ويريد الله أن يحق الحق بكلماته، ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد أراد الله - وله الفضل والمنة - أن تكون ملحمة لا غنيمة وأن تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه. وأراد أن يقطع دابر الكافرين، فيقتل منهم من يقتل، ويؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله، ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض، وتحطيم طاغوت الطواغيت. وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف - تعالى الله عن الجزاف - وبالجهد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال.

                                                                                                                                                                                                                                      نعم. أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة وأن تصبح دولة وأن يصبح لها قوة وسلطان.. وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها. فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها! وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والخيل والزاد ... إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد.

                                                                                                                                                                                                                                      وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي. ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة ويكن عدوها من الكثرة ومهما تكن هي من ضعف العدة المادية ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد.. وما كانت هذه الحقيقة لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان.

                                                                                                                                                                                                                                      وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها. بين ما حسبته خيرا لها وما قدره الله لها من الخير.. ينظر فيرى الآماد المتطاولة ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيرا مما يختاره الله لهم وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى. بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال! فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي - لو كانت لهم غير ذات الشوكة - [ ص: 1482 ] قصة غنيمة. قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة. قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل. قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد والحق في قلة من العدد، وضعف في الزاد والراحلة. قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي. بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي، وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها، قد انتصرت على نفسها، وانتصرت على من فيها، وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحانا ظاهرا في جانب الباطل فقلبت بيقينها ميزان الظاهر فإذا الحق راجح غالب.

                                                                                                                                                                                                                                      ألا إن غزوة بدر - بملابساتها هذه - لتمضي مثلا في التاريخ البشري. ألا وإنها لتقرر دستور النصر والهزيمة وتكشف عن أسباب النصر وأسباب الهزيمة.. الأسباب الحقيقية لا الأسباب الظاهرة المادية.. ألا وإنها لكتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان وفي كل مكان، لا تتبدل دلالتها ولا تتغير طبيعتها. فهي آية من آيات الله، وسنة من سننه الجارية في خلقه، ما دامت السماوات والأرض.. ألا وإن العصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة النشأة الإسلامية في الأرض - بعد ما غلبت عليها الجاهلية - لجديرة بأن تقف طويلا أمام (بدر) وقيمها الحاسمة التي تقررها والأبعاد الهائلة التي تكشفها بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم. ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الحق ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون ...

                                                                                                                                                                                                                                      إن العصبة المسلمة التي تحاول اليوم إعادة نشأة هذا الدين في دنيا الناس وفي عالم الواقع، قد لا تكون اليوم من الناحية الحركية في المرحلة التي كانت فيها العصبة المسلمة الأولى يوم بدر. ولكن الموازين والقيم والتوجيهات العامة لبدر وملابساتها ونتائجها والتعقيبات القرآنية عليها ما تزال تواجه وتوجه موقف العصبة المسلمة في كل مرحلة من مراحل الحركة، ذلك أنها موازين وقيم وتوجيهات كلية ودائمة ما دامت السماوات والأرض، وما كانت عصبة مسلمة في هذه الأرض، تجاهد في وجه الجاهلية لإعادة النشأة الإسلامية ...

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية