[ ص: 2360 ] [ ص: 2361 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورتا
الأنبياء والحج
الجزء السابع عشر
[ ص: 2362 ] [ ص: 2363 ] (21) سورة الأنبياء مكية
وآياتها اثنتا عشرة ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون (2) لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون (3) قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم (4) بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون (5) ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون (6) وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين (8) ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين (9) لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون (10) وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين (11) فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون (12) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون (13) قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين (14) فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين (15) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين (16) لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين (17) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .ولكم الويل مما تصفون (18) وله [ ص: 2364 ] من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19) يسبحون الليل والنهار لا يفترون (20) أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون (21) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22) لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (23) أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون (24) وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25) وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28) ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (29) أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون (30) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون (31) وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (32) وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (33) وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون (35)
هذه السورة، مكية تعالج الموضوع الرئيسي الذي تعالجه السور المكية.. موضوع العقيدة.. تعالجه في ميادينه الكبيرة: ميادين التوحيد، والرسالة والبعث.
وسياق السورة يعالج ذلك الموضوع بعرض النواميس الكونية الكبرى وربط العقيدة بها. فالعقيدة جزء [ ص: 2365 ] من بناء هذا الكون، يسير على نواميسه الكبرى; وهي تقوم على الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، وعلى الجد الذي تدبر به السماوات والأرض، وليست لعبا ولا باطلا، كما أن هذا الكون لم يخلق لعبا، ولم يشب خلقه باطل: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ..
ومن ثم يجول بالناس.. بقلوبهم وأبصارهم وأفكارهم.. بين مجالي الكون الكبرى: السماء والأرض. الرواسي والفجاج. الليل والنهار. الشمس والقمر ... موجها أنظارهم إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرفها، وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبر، والمالك الذي لا شريك له في الملك، كما أنه لا شريك له في الخلق.. لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ..
ثم يوجه مداركهم إلى وحدة النواميس التي تحكم الحياة في هذه الأرض، وإلى وحدة مصدر الحياة: وجعلنا من الماء كل شيء حي وإلى وحدة النهاية التي ينتهي إليها الأحياء: كل نفس ذائقة الموت ..
وإلى وحدة المصير الذي إليه ينتهون: وإلينا ترجعون ..
والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية الكبرى. فهي واحدة كذلك وإن تعدد الرسل على مدار الزمان: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
.. وقد اقتضت مشيئة الله أن يكون الرسل كلهم من البشر: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ..
وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض. فالسنة التي لا تتخلف أن يغلب الحق في النهاية وأن يزهق الباطل، لأن الحق قاعدة كونية وغلبته سنة إلهية: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .. وأن يحل الهلاك بالظالمين المكذبين، وينجي الله الرسل والمؤمنين: ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين .. وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ..
ومن ثم يستعرض السياق أمة الرسل الواحدة في سلسلة طويلة استعراضا سريعا. يطول بعض الشيء عند عرض حلقة من قصة إبراهيم - عليه السلام - وعند الإشارة إلى داود وسليمان . ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح ، وموسى ، وهارون ، ولوط ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى عليهم السلام.
وفي هذا الاستعراض تتجلى المعاني التي سبقت في سياق السورة. تتجلى. في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات، بعد ما تجلت في صورة قواعد عامة ونواميس.
كذلك يتضمن سياق السورة بعض مشاهد القيامة; وتتمثل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة..
وهكذا تتجمع الإيقاعات المنوعة في السورة على هدف واحد، هو استجاشة القلب البشري لإدراك الحق الأصيل في العقيدة التي جاء بها خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - فلا يتلقاها الناس غافلين معرضين لاهين كما يصفهم في مطلع السورة: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون. ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون. لاهية قلوبهم ... .
إن هذه الرسالة حق وجد. كما أن هذا الكون حق وجد. فلا مجال للهو في استقبال الرسالة; ولا مجال [ ص: 2366 ] لطلب الآيات الخارقة; وآيات الله في الكون وسنن الكون كله. توحي بأنه الخالق القادر الواحد، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد.
نظم هذه السورة من ناحية بنائه اللفظي وإيقاعه الموسيقي هو نظم التقرير، الذي يتناسق مع موضوعها، ومع جو السياق في عرض هذا الموضوع.. يبدو هذا واضحا بموازنته بنظم سورتي مريم وطه مثلا. فهناك الإيقاع الرخي الذي يناسب جوهما. وهنا الإيقاع المستقر الذي يناسب موضوع السورة وجوها..
ويزيد هذا وضوحا بموازنة نظم قصة إبراهيم - عليه السلام - في مريم ونظمها هنا. وكذلك بالتأمل في الحلقة التي أخذت منها هنا الحلقة التي أخذت منها هناك. ففي سورة مريم أخذت حلقة الحوار الرخي بين إبراهيم وأبيه. أما هنا فجاءت حلقة تحطيم الأصنام، وإلقاء إبراهيم في النار. ليتم التناسق في الموضوع والجو والنظم والإيقاع.
والسياق في هذه السورة يمضي في أشواط أربعة:
الأول: ويبدأ بمطلع قوي الضربات، يهز القلوب هزا، وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق، وهي عنه غافلة لاهية: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ... إلخ .
ثم يهزها هزة أخرى بمشهد من مصارع الغابرين، الذين كانوا عن آيات ربهم غافلين، فعاشوا سادرين في الغي ظالمين: وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين. فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون. لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون. قالوا: يا ويلنا! إنا كنا ظالمين. فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ..
ثم يربط بين الحق والجد في الدعوة، والحق والجد في نظام الكون. وبين عقيدة التوحيد ونواميس الوجود. وبين وحدة الخالق المدبر ووحدة الرسالة والعقيدة. ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها على النحو الذي أسلفناه.
فأما الشوط الثاني فيرجع بالحديث إلى الكفار الذين يواجهون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالسخرية والاستهزاء، بينما الأمر جد وحق، وكل ما حولهم يوحي باليقظة والاهتمام. وهم يستعجلون العذاب والعذاب منهم قريب.. وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة. ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرسل قبلهم. ويقرر أن ليس لهم من الله من عاصم. ويوجه قلوبهم إلى تأمل يد القدرة وهي تنقص الأرض من أطرافها، وتزوي رقعتها وتطويها، فلعل هذا أن يوقظهم من غفلتهم التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء..
وينتهي هذا الشوط بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى بيان وظيفته: قل: إنما أنذركم بالوحي وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم: ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون حتى تنصب الموازين القسط وهم في غفلتهم سادرون.
ويتضمن الشوط الثالث استعراض أمة النبيين، وفيها تتجلى وحدة الرسالة والعقيدة. كما تتجلى رحمة الله بعباده الصالحين وإيحاؤه لهم وأخذ المكذبين.
[ ص: 2367 ] أما الشوط الرابع والأخير فيعرض النهاية والمصير، في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة: ويتضمن ختام السورة بمثل ما بدأت: إيقاعا قويا، وإنذارا صريحا، وتخلية بينهم وبين مصيرهم المحتوم..