الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هنا يربط السياق بين العقيدة التي سبق الحديث عنها، وسننها التي تجري عليها، والتي تأخذ المكذبين بها. يربط بينها وبين الحق الكبير والجد الأصيل، اللذين يقوم بهما الكون كله، ويتلبس بهما خلق السماوات والأرض في صميمه.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا كان المشركون يستقبلون القرآن كلما جاءهم منه جديد باللعب واللهو، غافلين عما في الأمر من حق وجد. وإذا كانوا يغفلون عن يوم الحساب القريب، وعما ينتظر المكذبين المستهزئين.. فإن سنة الله مطردة نافذة مرتبطة بالحق الكبير والجد الأصيل:

                                                                                                                                                                                                                                      وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين. لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا. إن كنا فاعلين. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد خلق الله سبحانه هذا الكون لحكمة، لا لعبا ولا لهوا. ودبره بحكمة، لا جزافا ولا هوى، وبالجد الذي خلق به السماء والأرض وما بينهما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وفرض الفرائض، وشرع التكاليف.. فالجد أصيل في طبيعة هذا الكون، أصيل في تدبيره، أصيل في العقيدة التي أرادها الله للناس، أصيل في الحساب الذي يأخذهم به بعد الممات.

                                                                                                                                                                                                                                      ولو أراد الله - سبحانه - أن يتخذ لهوا لاتخذه من لدنه. لهوا ذاتيا لا يتعلق بشيء من مخلوقاته الحادثة الفانية.

                                                                                                                                                                                                                                      وهو مجرد فرض جدلي: لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا .. ولو - كما يقول النحاة - حرف امتناع لامتناع. تفيد امتناع وقوع فعل الجواب لامتناع وقوع فعل الشرط. فالله سبحانه لم يرد أن يتخذ لهوا فلم يكن هناك لهو. لا من لدنه ولا من شيء خارج عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولن يكون لأن الله - سبحانه - لم يرده ابتداء ولم يوجه إليه إرادته أصلا: إن كنا فاعلين .. وإن حرف نفي بمعنى ما، والصيغة لنفي إرادة الفعل ابتداء.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2372 ] إنما هو فرض جدلي لتقرير حقيقة مجردة.. هي أن كل ما يتعلق بذات الله - سبحانه - قديم لا حادث، وباق غير فان. فلو أراد - سبحانه - أن يتخذ لهوا لما كان هذا اللهو حادثا، ولا كان متعلقا بحادث كالسماء والأرض وما بينهما فكلها حوادث.. إنما كان يكون ذاتيا من لدنه سبحانه. فيكون أزليا باقيا. لأنه يتعلق بالذات الأزلية الباقية.

                                                                                                                                                                                                                                      إنما الناموس المقرر والسنة المطردة ألا يكون هناك لهو، إنما يكون هناك جد، ويكون هناك حق; فيغلب الحق الأصيل على الباطل العارض:

                                                                                                                                                                                                                                      بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ..

                                                                                                                                                                                                                                      و "بل" للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو; والعدول عنه إلى الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس. وهو غلبة الحق وزهوق الباطل.

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية حية متحركة. فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة. تقذف به على الباطل، فيشق دماغه! فإذا هو زاهق هالك ذاهب..

                                                                                                                                                                                                                                      هذه هي السنة المقررة، فالحق أصيل في طبيعة الكون، عميق في تكوين الوجود. والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلا، طارئ لا أصالة فيه، ولا سلطان له، يطارده الله، ويقذف عليه بالحق فيدمغه. ولا بقاء لشيء يطارده الله; ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه!

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد يخيل للناس أحيانا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير. وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب، ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب. وإن هي إلا فترة من الزمان، يمد الله فيها ما يشاء، للفتنة والابتلاء. ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض; وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء.

                                                                                                                                                                                                                                      والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده; وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه; وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه.. فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة; وأدركوا أنه الابتلاء; وأحسوا أن ربهم يربيهم، لأن فيهم ضعفا أو نقصا; وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر، وأن يجعلهم ستار القدرة، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف.. وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء، وحقق على أيديهم ما يشاء. أما العاقبة فهي مقررة: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق والله يفعل ما يريد.

                                                                                                                                                                                                                                      هكذا يقرر القرآن الكريم تلك الحقيقة للمشركين، الذين يتقولون على القرآن وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويصفونه بالسحر والشعر والافتراء. وهو الحق الغالب الذي يدمغ الباطل، فإذا هو زاهق.. ثم يعقب على ذلك التقرير بإنذارهم عاقبة ما يتقولون: ولكم الويل مما تصفون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يعرض لهم نموذجا من نماذج الطاعة والعبادة في مقابل عصيانهم وإعراضهم. نموذجا ممن هم أقرب منهم إلى الله. ومع هذا فهم دائبون على طاعته وعبادته، لا يفترون ولا يقصرون:

                                                                                                                                                                                                                                      وله من في السماوات والأرض. ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2373 ] ومن في السماوات والأرض لا يعلمهم إلا الله، ولا يحصيهم إلا الله. والعلم البشري لا يستيقن إلا من وجود البشر. والمؤمنون يستيقنون من وجود الملائكة والجن كذلك لذكرهما في القرآن. ولكننا لا نعرف عنهم إلا ما أخبرنا به خالقهم. وقد يكون هناك غيرهم من العقلاء في غير هذا الكوكب الأرضي، بطبائع وأشكال تناسب طبيعة تلك الكواكب. وعلم ذلك عند الله.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا نحن قرأنا: وله من في السماوات والأرض عرفنا منهم من نعرف، وتركنا علم من لا نعلم لخالق السماوات والأرض ومن فيهن.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن عنده المفهوم القريب أنهم الملائكة. ولكننا لا نحدد ولا نقيد ما دام النص عاما يشمل الملائكة وغيرهم. والمفهوم من التعبير أنهم هم الأقرب إلى الله. فكلمة "عند" القياس إلى الله لا تعني مكانا، ولا تحدد وصفا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته كما يستكبر هؤلاء المشركون ولا يستحسرون - أي يقصرون - في العبادة. فحياتهم كلها عبادة وتسبيح بالليل والنهار دون انقطاع ولا فتور..

                                                                                                                                                                                                                                      والبشر يملكون أن تكون حياتهم كلها عبادة دون أن ينقطعوا للتسبيح والتعبد كالملائكة. فالإسلام يعد كل حركة وكل نفس عبادة إذا توجه بها صاحبها إلى الله. ولو كانت متاعا ذاتيا بطيبات الحياة!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي ظل التسبيح الذي لا يفتر ولا ينقطع لله الواحد، مالك السماوات والأرض ومن فيهن. يجيء الإنكار على المشركين واستنكار دعواهم في الآلهة. ويعرض السياق دليل الوحدانية من المشهود في نظام الكون وناموسه الواحد الدال على المدبر الواحد; و من المنقول عن الكتب السابقة عند أهل الكتاب:

                                                                                                                                                                                                                                      أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون؟ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. فسبحان الله رب العرش عما يصفون. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة؟ قل: هاتوا برهانكم. هذا ذكر من معي وذكر من قبلي. بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون. وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ..

                                                                                                                                                                                                                                      والسؤال عن اتخاذهم آلهة هو سؤال استنكار للواقع منهم. ووصف هؤلاء الآلهة بأنهم ينشرون من الأرض أي يقيمون الأموات ويبعثونهم أحياء. فيه تهكم بتلك الآلهة التي اتخذوها. فمن أول صفات الإله الحق أن ينشر الأموات من الأرض. فهل الآلهة التي اتخذوها تفعل هذا؟ إنها لا تفعل، ولا يدعون لها هم أنها تخلق حياة أو تعيد حياة. فهي إذن فاقدة للصفة الأولى من صفات الإله.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك منطق الواقع المشهود في الأرض. وهنالك الدليل الكوني المستمد من واقع الوجود: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ..

                                                                                                                                                                                                                                      فالكون قائم على الناموس الواحد الذي يربط بين أجزائه جميعا; وينسق بين أجزائه جميعا وبين حركات هذه الأجزاء وحركة المجموع المنظم.. هذا الناموس الواحد من صنع إرادة واحدة لإله واحد. فلو تعددت الذوات لتعددت الإرادات. ولتعددت النواميس تبعا لها - فالإرادة مظهر الذات المريدة. والناموس مظهر الإرادة النافذة - ولانعدمت الوحدة التي تنسق الجهاز الكوني كله، وتوحد منهجه واتجاهه وسلوكه; ولوقع الاضطراب والفساد تبعا لفقدان التناسق.. هذا التناسق الملحوظ الذي لا ينكره أشد الملحدين لأنه واقع محسوس.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن الفطرة السليمة التي تتلقى إيقاع الناموس الواحد للوجود كله، لتشهد شهادة فطرية بوحدة هذا [ ص: 2374 ] الناموس، ووحدة الإرادة التي أوجدته، ووحدة الخالق المدبر لهذا الكون المنظم المنسق، الذي لا فساد في تكوينه، ولا خلل في سيره:

                                                                                                                                                                                                                                      فسبحان الله رب العرش عما يصفون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهم يصفونه بأن له شركاء. تنزه الله المتعالي المسيطر: رب العرش والعرش رمز الملك والسيطرة والاستعلاء. تنزه عما يقولون والوجود كله بنظامه وسلامته من الخلل والفساد يكذبهم فيما يقولون.

                                                                                                                                                                                                                                      لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومتى كان المسيطر على الوجود كله يسأل; ومن ذا الذي يسأله; وهو القاهر فوق عباده، وإرادته طليقة لا يحدها قيد من إرادة أخرى، ولا حتى من الناموس الذي ترتضيه هي وتتخذه حاكما لنظام الوجود؟ والسؤال والحساب إنما يكونان بناء على حدود ترسم ومقياس يوضع. والإرادة الطليقة هي التي تضع الحدود والمقاييس، ولا تتقيد بما تضع للكون من الحدود والمقاييس إلا كما تريد. والخلق مأخوذون بما تضع لهم من تلك الحدود فهم يسألون.

                                                                                                                                                                                                                                      وإن الخلق ليستبد بهم الغرور أحيانا فيسألون سؤال المنكر المتعجب: ولماذا صنع الله كذا. وما الحكمة في هذا الصنيع؟ وكأنما يريدون ليقولوا: إنهم لا يجدون الحكمة في ذلك الصنيع!

                                                                                                                                                                                                                                      وهم يتجاوزون في هذا حدود الأدب الواجب في حق المعبود، كما يتجاوزون حدود الإدراك الإنساني القاصر الذي لا يعرف العلل والأسباب والغايات وهو محصور في حيزه المحدود..

                                                                                                                                                                                                                                      إن الذي يعلم كل شيء، ويدبر كل شيء، ويسيطر على كل شيء، هو الذي يقدر ويدبر ويحكم. لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى جانب الدليل الكوني المستمد من طبيعة الوجود وواقعه يسألهم عن الدليل النقلي الذي يستندون إليه في دعوى الشرك التي لا تعتمد على دليل:

                                                                                                                                                                                                                                      أم اتخذوا من دونه آلهة؟ قل: هاتوا برهانكم. هذا ذكر من معي وذكر من قبلي .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا هو القرآن يشتمل على ذكر المعاصرين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهناك ذكر من سبقه من الرسل. وليس فيما جاءوا به ذكر الشركاء. فكل الديانات قائمة على عقيدة التوحيد. فمن أين جاء المشركون بدعوى الشرك التي تنقضها طبيعة الكون، ولا يوجد من الكتب السابقة عليها دليل:

                                                                                                                                                                                                                                      بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ..

                                                                                                                                                                                                                                      فالتوحيد هو قاعدة العقيدة منذ أن بعث الله الرسل للناس. لا تبديل فيها ولا تحويل. توحيد الإله وتوحيد المعبود. فلا انفصال بين الألوهية والربوبية; ولا مجال للشرك في الألوهية ولا في العبادة.. قاعدة ثابتة ثبوت النواميس الكونية، متصلة بهذه النواميس وهي واحدة منها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية