[ ص: 2573 ] ومن ماء السماء وماء البحر والنهر إلى ماء النطفة الذي تنشأ منه الحياة البشرية المباشرة :
وهو الذي خلق من الماء بشرا، فجعله نسبا وصهرا، وكان ربك قديرا ..
فمن هذا الماء يتخلق الجنين: ذكرا فهو نسب، وأنثى فهو صهر، بما أنها موضع للصهر.
وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب وأضخم من تلك الحياة الناشئة من ماء السماء، فمن خلية واحدة (من عشرات الألوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل) تتحد ببويضة المرأة في الرحم، ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب –الإنسان - أعجب الكائنات الحية على الإطلاق!
ومن الخلايا المتشابهة والبويضات المتشابهة ينشأ ذكور وإناث بطريقة عجيبة، لا يدرك البشر سرها، ولا يستطيع علم البشر ضبطها أو تعليلها، فما من خلية من آلاف الخلايا يمكن أن تلحظ فيها مميزات معروفة هي التي تؤهلها لأن تنتج ذكرا أو أنثى، وما من بويضة كذلك لوحظ فيها مثل هذه المميزات، ومع ذلك تصير هذه إلى أن تكون رجلا، وهذه إلى أن تكون امرأة، في نهاية المطاف! وكان ربك قديرا .. وها هي ذي القدرة تكشف عن طرف منها ف هذا العجب العجاب!
ولو راح الإنسان يدقق في هذا الماء الذي يخلق منه الإنسان، لأدركه الدوار وهو يبحث عن خصائص الإنسان الكاملة الكامنة في الأجسام الدقيقة البالغة الدقة، التي تحمل عناصر الوراثة للجنس كله، وللأبوين وأسرتيهما القريبتين، لتنقلها إلى الجنين الذكر والجنين الأنثى كل منهما بحسب ما ترسم له يد القدرة من خلق واتجاه في طريق الحياة.
وهذه لمحات من كتاب: "الإنسان لا يقوم وحده" عن خصائص الوراثة الكامنة في تلك الذريرات الصغيرة:
" كل خلية ذكرا أو أنثى. تحتو على كروموزومات وجينات /(وحدات الوراثة) والكروموزومة تكون النوية (نواة صغيرة) المعتمة التي تحتوي الجينة، والجينات هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي أو إنسان، والسيتوبلازم هي تلك التركيبات الكيماوية العجيبة التي تحيط بالاثنتين، وتبلغ الجينات (وحدات الوراثة) من الدقة أنها، وهي المسؤولة عن المخلوقات البشرية جميعا، التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية وأحوالها النفسية وألوانها وأجناسها، لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد، لكان حجمها أقل من حجم" الكستبان" !
" وهذه الجينات الميكروسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات. " والكستبان" الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر هو بلا ريب مكان صغير الحجم. ومع ذلك فإن هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها.
" وإن الجنين وهو يخلص في تطوره التدريجي من النطفة (البروتوبلازم) إلى الشبه الجنسي، إنما يقص تاريخا مسجلا، قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم.
... " لقد رأينا أن الجينات متفق على كونها تنظيمات أصغر من الميكروسكوبية للذرات، في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية، وهي تحفظ التصميم، وسجل السلف، والخواص التي لكل شيء حي وهي تتحكم [ ص: 2574 ] تفصيلا في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر لكل نبات، تماما كما تقرر الشكل، والقشر، والشعر، والأجنحة لكل حيوان بما فيه الإنسان".
وبهذا القدر نكتفي من عجائب الحياة، التي أودعتها إياها القدرة الخالقة المدبرة. وكان ربك قديرا ..
وفي مثل هذا الجو. جو الخلق والتقدير. وأمام تلك الحياة الناشئة من ماء السماء وماء النطفة. المزودة بتلك الخصائص، التي تجعل من خلية ذكرا بمميزاته كلها ووراثاته، وتجعل من خلية أنثى بمميزاتها كذلك ووراثاتها.. في مثل هذا الجو تبدو عبادة غير الله شيئا مستغربا مستنكرا تشمئز منه الفطرة.. وهنا يعرض عباداتهم من دون الله.
ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم. وكان الكافر على ربه ظهيرا ..
. كل كافر - ومشركو مكة من ضمنهم! - إنما هو حرب على ربه الذي خلقه وسواه، فكيف ذلك، وهو صغير ضئيل لا يبلغ أن يكون حربا ولا ضدا على الله؟ إنه حرب على دينه، وحرب على منهجه الذي أراده للحياة، إنما يريد التعبير أن يفظع جريمته ويبشعها، فيصوره حربا على ربه ومولاه!
فهو يحارب ربه حين يحارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، فلا على الرسول منه، فإنما الحرب مع الله، وهو به كفيل، ثم يطمئن الله عبده، ويخفف العبء عن عاتقه، ويشعره أنه حين يؤدي واجبه في التبشير والإنذار، وجهاد الكفار بما معه من قرآن فلا عليه من عداء المجرمين له ولا عناد الكافرين، والله يتولى عنه المعركة مع أعدائه الذين إنما يعادون الله، فليتوكل على ربه، والله أعلم بذنوب عباده!
وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا ..
وبهذا يحدد واجب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو التبشير والإنذار، ولم يكن بعد مأمورا بقتال المشركين وهو في مكة لضمان حرية التبشير والإنذار كما أمر به بعد ذلك في المدينة، وذلك لحكمة يعلمها الله، نحدس منها أنه كان في هذه الفترة يعد الرجال الذين ترتكز إليهم هذه العقيدة الجديدة، وتعيش في نفوسهم، وتترجم في حياتهم، وتتمثل في سلوكهم، لكي يكونوا نواة المجتمع المسلم الذي يحكمه الإسلام ويهيمن عليه، ولكي لا يدخل في خصومات وثارات دموية تصد قريشا عن الإسلام، وتغلق قلوبهم دونه; والله يقدر أنهم سيدخلون فيه بعضهم قبل الهجرة وسائرهم بعد الفتح، ويكون منهم نواة صلبة للعقيدة الخالدة بإذن الله.
على أن لب الرسالة بقي في المدينة كما كان في مكة هو التبشير والإنذار، إنما جعل القتال لإزالة الموانع المادية دون حرية الدعوة، ولحماية المؤمنين حتى لا تكون فتنة; فالنص صادق في مكة وفي المدينة على السواء :
وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ..
قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ..
فليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - من مطمع في أجر ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا يناله ممن يهتدون إلى الإسلام، ليست هناك إتاوة، ولا نذر ولا قربان يقدمه المسلم، وهو يدخل في الجماعة المسلمة [ ص: 2575 ] بكلمات ينطق بها لسانه ويعتقد بها قلبه، وهذه ميزة الإسلام، ميزته أن ليس هناك كاهن يتقاضى ثمن كهانته، ولا وسيط يقبض ثمن وساطته; ليس هنالك رسم دخول، ولا ثمنا لتناول سر ولا بركة ولا استقبال! هذه هي بساطة هذا الدين وبراءته من كل ما يحول بين القلب والإيمان; ومن كل ما يقف بين العبد وربه من وسطاء وكهان، ليس هنالك سوى أجر واحد للرسول - صلى الله عليه وسلم - هو اهتداء المهتدي إلى الله وتقربه إلى ربه بما يراه! إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا .. هذ وحده هو أجره، يرضي قلبه الطاهر ويستريح وجدانه النبيل أن يرى عبدا من عباد الله قد اهتدى إلى ربه، فهو يبتغي رضاه، ويتحرى طريقه، ويتجه إلى مولاه.
وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده ..
وكل ما عدا الله ميت؛ لأنه صائر إلى موت، فلا يبقى إلا الحي الذي لا يموت، والتوكل على ميت، تفارقه الحياة يوما طال عمره أم قصر، هو ارتكان إلى ركن ينهار، وإلى ظل يزول، إنما التوكل على الحي الدائم الذي لا يزول.. وسبح بحمده ولا يحمد إلا الله المنعم الوهاب.. ودع أمر الكفار الذين لا ينفعهم التبشير والإنذار إلى الحي الذي لا يموت فهو يعلم ذنوبهم ولا يخفى عليه منها شيء: وكفى به بذنوب عباده خبيرا .