ومن آياته أن خلقكم من تراب، ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ..
والتراب ميت ساكن، ومنه نشأ الإنسان. وفي موضع آخر في القرآن جاء: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين فالطين هو الأصل البعيد للإنسان. ولكن هنا يذكر هذا الأصل ويعقبه مباشرة بصورة البشر منتشرين متحركين. للمقابلة في المشهد والمعنى بين التراب الميت الساكن والبشر الحي المتحرك. وذلك بعد قوله: يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي تنسيقا للعرض على طريقة القرآن.
وهذه المعجزة الخارقة آية من آيات القدرة، وإيحاء كذلك بالصلة الوثيقة بين البشر وهذه الأرض التي يعيشون عليها، والتي يلتقون بها في أصل تكوينهم، وفي النواميس التي تحكمها وتحكمهم في نطاق الوجود الكبير.
والنقلة الضخمة من صورة التراب الساكن الزهيد إلى صورة الإنسان المتحرك الجليل القدر.. نقلة تثير التأمل في صنع الله، وتستجيش الضمير للحمد والتسبيح لله وتحرك القلب لتمجيد الصانع المتفضل الكريم.
ومن مجال الخلقة الأولى لنوع البشر ينتقل إلى مجال الحياة المشتركة بين جنسي البشر:
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ..
والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الجنس الآخر، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم تلك الصلة بين الجنسين وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة الأنماط والاتجاهات بين الرجل والمرأة. ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي خلقت لهم من أنفسهم أزواجا، وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر، وجعلت في تلك الصلة سكنا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارا للحياة والمعاش، وأنسا للأرواح والضمائر، واطمئنانا للرجل والمرأة على السواء.
والتعبير القرآني اللطيف الرفيق يصور هذه العلاقة تصويرا موحيا، وكأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس: لتسكنوا إليها .. وجعل بينكم مودة ورحمة ..
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .. فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقا للآخر. ملبيا لحاجته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية. بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة؛ لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد..
ومن آياته خلق السماوات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم. إن في ذلك لآيات للعالمين ..
[ ص: 2764 ] وآية خلق السماوات والأرض كثيرا ما يشار إليها في القرآن، وكثيرا ما نمر عليها سراعا دون أن نتوقف أمامها طويلا.. ولكنها جديرة بطول الوقوف والتدبر العميق.
إن خلق السماوات والأرض معناه إنشاء هذا الخلق الهائل الضخم العظيم الدقيق، الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل. هذا الحشد الذي لا يحصى من الأفلاك والمدارات والنجوم والكواكب والسدم والمجرات.
تلك التي لا تزيد أرضنا الصغيرة عن أن تكون ذرة تائهة بينها تكاد أن تكون لا وزن لها ولا ظل! ومع الضخامة الهائلة ذلك التناسق العجيب بين الأفلاك والمدارات والدورات والحركات، وما بينها من مسافات وأبعاد تحفظها من التصادم والخلل والتخلف والاضطراب، وتجعل كل شيء في أمرها بمقدار.
ذلك كله من ناحية الحجم العام والنظام. فأما أسرار هذه الخلائق الهائلة وطبائعها وما يستكن فيها وما يظهر عليها، والنواميس الكبرى التي تحفظها وتحكمها وتصرفها.. فهذا كله أعظم من أن يلم به الإنسان، وما عرف عنه إلا أقل من القليل. ودراسة هذا الكوكب الصغير الضئيل الذي نعيش على سطحه لم يتم منها حتى اليوم إلا القليل!
هذه لمحة خاطفة عن آية خلق السماوات والأرض التي نمر عليها سراعا. بينما نتحدث طويلا وطويلا جدا. عن جهاز صغير يركبه علماء الإنسان، ويحتفظون فيه بالتناسق بين أجزائه المختلفة لتعمل كلها في حركة منتظمة دون تصادم ولا خلل فترة من الزمان! ثم يستطيع بعض التائهين الضالين المنحرفين أن يزعم أن هذا الكون الهائل المنظم الدقيق العجيب وجد واستمر بدون خالق مدبر. ويجد من يستطيع أن يسمع لهذا الهراء! من العلماء!
ومع آية السماوات والأرض عجيبة اختلاف الألسنة والألوان.. بين بني الإنسان. ولا بد أنها ذات علاقة بخلق السماوات والأرض. فاختلاف الأجواء على سطح الأرض واختلاف البيئات، ذلك الاختلاف الناشئ من طبيعة وضع الأرض الفلكي، ذو علاقة باختلاف الألسنة والألوان، مع اتحاد الأصل والنشأة في بني الإنسان.
وعلماء هذا الزمان يرون اختلاف اللغات والألوان، ثم يمرون عليه دون أن يروا فيه يد الله، وآياته في خلق السماوات والأرض. وقد يدرسون هذه الظاهرة دراسة موضوعية، ولكنهم لا يقفون ليمجدوا الخالق المدبر للظواهر والبواطن. ذلك أن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا . وآية خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لا يراها إلا الذين يعلمون: إن في ذلك لآيات للعالمين ..