قوله تعالى : لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر قيل : إن المنسك الموضع المعتاد لعمل خير أو شر وهو المألف [ ص: 85 ] لذلك ، ، فهي متعبدات الحج . وقال ومناسك الحج مواضع العبادات فيه : " منسكا عيدا " وقال ابن عباس مجاهد : " متعبدا في إراقة الدم وقتادة بمنى وغيره " . وقال عطاء أيضا ومجاهد ذبائح هم ذابحوه . وقيل إن المنسك جميع العبادات التي أمر الله بها . قال وعكرمة : قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبو بكر البراء بن عازب ، وهذا يدل على أن اسم النسك يقع على جميع العبادات ، إلا أن الأظهر الأغلب في العادة عند الإطلاق الذبح على وجه القربة ، قال الله تعالى : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الأضحى فقال صلى الله عليه وسلم : إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فجعل الصلاة والذبح جميعا نسكا ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وليس يمتنع أن يكون المراد جميع العبادات ويكون الذبح أحد ما أريد بالآية ، فيوجب ذلك أن يكونوا مأمورين بالذبح لقوله تعالى : فلا ينازعنك في الأمر وإذ كنا مأمورين بالذبح ساغ الاحتجاج به في إيجاب الأضحية لوقوعها عامة في الموسرين كالزكاة ، ولو جعلناه على الذبح الواجب في الحج كان خاصا في دم القران والمتعة ؛ إذ كانا نسكين في الحج دون غيرهما من الدماء ؛ إذ كانت سائر الدماء في الحج إنما يجب على جهة جبران نقص وجناية فلا يكون إيجابه على وجه ابتداء العبادة به ، وقوله تعالى : جعلنا منسكا هم ناسكوه يقتضي ظاهره ابتداء إيجاب العبادة به .
واختلف السلف وفقهاء الأمصار في ، فروى وجوب الأضحية عن الشعبي أبي سريحة قال : " رأيت أبا بكر وما يضحيان " . وقال وعمر : " كان عكرمة يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحما ويقول : من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس " . وقال ابن عباس : " ليست بحتم ولكن سنة ومعروف " . وقال ابن عمر أبو مسعود الأنصاري : " إني لأدع الأضحى وأنا موسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم علي " . وقال : " الأضحية واجبة إلا على مسافر " وروي عنه أنه قال : " كانوا إذا شهدوا ضحوا وإذا سافروا لم يضحوا " . إبراهيم النخعي
وروى عن يحيى بن يمان سعيد بن عبد العزيز عن قال : " الأضحية واجبة " . وقال مكحول أبو حنيفة ومحمد : " الأضحية واجبة على أهل اليسار من أهل الأمصار والقرى المقيمين دون المسافرين ، ولا أضحية على المسافر وإن كان موسرا ، وحد اليسار في ذلك ما تجب فيه صدقة الفطر " وروي عن وزفر مثل ذلك ، وروي عنه أنه ليست بواجبة وهي سنة . وقال أبي يوسف : " على الناس كلهم أضحية المسافر والمقيم ، ومن تركها من غير عذر فبئس ما صنع " . وقال مالك بن أنس الثوري : " ليست بواجبة " . وقال والشافعي : " لا بأس بتركها " . وقال الثوري عبد الله بن [ ص: 86 ] الحسن : " يؤثر بها أباه أحب إلي من أن يضحي " . قال : ومن يوجبها يحتج بهذه الآية ، ويحتج له بقوله : أبو بكر قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت قد اقتضى الأمر بالأضحية ؛ لأن النسك في هذا الموضع المراد به الأضحية ، ويدل عليه ما روى عن سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عمران بن حصين اشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه وقولي : فاطمة إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . وروي أن يا رضي الله عنه كان يقول عند ذبح الأضحية : عليا إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله الآية . يوم الأضحى : يا رسول الله إني عجلت بنسكي أبو بردة بن نيار . وقال صلى الله عليه وسلم : وقال فدل ذلك على أن هذا النسك قد أريد به الأضحية ، وأخبر أنه مأمور به بقوله : إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح وبذلك أمرت والأمر يقتضي الوجوب . ويحتج فيه بقوله : فصل لربك وانحر قد روي أنه أراد صلاة العيد وبالنحر الأضحية ، والأمر يقتضي الإيجاب ، وإذا وجب على النبي صلى الله عليه وسلم فهو واجب علينا لقوله تعالى : واتبعوه وقوله : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ويحتج للقائلين بإيجابها من جهة الأثر بما رواه عن زيد بن الحباب قال : حدثني عبد الله بن عياش عن الأعرج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . وقد رواه غير من كان له يسار فلم يضح فلا يقربن مصلانا مرفوعا جماعة منهم زيد بن الحباب ، حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع عباس بن الوليد بن المبارك قال : حدثنا الهيثم بن خارجة قال : حدثنا عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عياش عن الأعرج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . ورواه من قدر على سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا يحيى بن يعلى أيضا مرفوعا ، حدثنا قال : حدثنا عبد الباقي حسين بن إسحاق قال : حدثنا أحمد بن النعمان الفراء قال : حدثنا يحيى بن يعلى عن أو عبد الله بن عياش عباس عن عن الأعرج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . ورواه من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مسجدنا عن عبيد الله بن أبي جعفر عن الأعرج قال : أبي هريرة . ويقال إن من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا فوق عبيد الله بن أبي جعفر ابن عياش في الضبط والجلالة ، فوقفه على ولم يرفعه ، ويقال إن الصحيح أنه موقوف عليه غير مرفوع . ويحتج لإيجابها أيضا بحديث أبي هريرة أبي رملة الحنفي عن مخنف بن سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . قال على كل أهل بيت في عام أضحية وعتيرة : والعتيرة [ ص: 87 ] منسوخة بالاتفاق ، وهي أنهم أبو بكر ، وقد كان كانوا يصومون رجب ثم يعترون ، وهي الرجبية ابن سيرين وابن عون يفعلانه ، ولم تقم الدلالة على نسخ الأضحية فهي واجبة بمقتضى الخبر ، إلا أنه ذكر في هذا الحديث : " على كل أهل بيت أضحية " ومعلوم أن الواجب من الأضحية لا يجزئ عن أهل البيت وإنما يجزئ عن واحد ، فيدل ذلك على أنه لم يرد الإيجاب . ومما يحتج لموجبها ما حدثنا قال : حدثنا عبد الباقي أحمد بن أبي عون البزوري قال : حدثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم قال : حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن مجالد عن عن الشعبي جابر قالا : قام النبي صلى الله عليه وسلم على منبره يوم الأضحى فقال : والبراء بن عازب فقال : يا رسول الله إني ذبحت ليأكل معنا أصحابنا إذا رجعنا ، قال : ليس بنسك قال : عندي جذعة من المعز ، قال : تجزي عنك ولا تجزي عن غيرك أبو بردة بن نيار ، فيستدل من هذا الخبر بوجوه على الوجوب ، أحدها : قوله صلى الله عليه وسلم : من صلى معنا هذه الصلاة فليذبح بعد الصلاة فقام من صلى معنا هذه الصلاة وشهد معنا فليذبح بعد الصلاة وهو أمر بالذبح يقتضي ظاهره الوجوب .
والوجه الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : . ومعناه : تقضي عنك ؛ لأنه يقال جزى عني كذا بمعنى قضى عني ، والقضاء لا يكون إلا عن واجب فقد اقتضى ذلك الوجوب . ومن جهة أخرى أن في بعض ألفاظ هذا الحديث : " فمن ذبح قبل الصلاة فليعد أضحيته " وفي بعضها أنه قال تجزي عنك ولا تجزي عن غيرك لأبي بردة : ، ومن يأبى ذلك يقول : إن قوله صلى الله عليه وسلم : أعد أضحيتك من صلى معنا هذه الصلاة وشهد معنا فليذبح يدل على أنه لم يرد الإيجاب ؛ لأن وجوبها لا يتعلق بشهود الصلاة عند الجميع ، ولما عم الجميع ولم يخصص به الأغنياء دل على أنه أراد الندب ، وأما قوله : فإنما أراد به جواز قربة ، والجواز والقضاء على ضربين : تجزي عنك
أحدهما جواز قربة ، والآخر جواز فرض ، فليس في ظاهر إطلاق لفظ الجواز والقضاء دلالة على الوجوب . وأيضا يحتمل أن يكون قد كان أوجب الأضحية نذرا ، فأمره بالإعادة ، فإذا ليس فيما خاطب به أبو بردة أبا بردة دلالة على الوجوب ؛ لأنه حكم في شخص معين ليس بعموم لفظ في إيجابها على كل أحد . فإن قيل : لو أراد القضاء عن واجب لسأله عن قيمته ليوجب عليه مثله . قيل له : قد قال : " إن عندي جذعة خير من شاتي لحم " فكانت الجذعة خيرا من الأولى . ومما يحتج به على الوجوب من طريق النظر اتفاق الجميع على لزومها بالنذر ، فلولا أن لها أصلا في الوجوب لما لزمت بالنذر ، كسائر الأشياء التي ليس لها أصل في الوجوب فلا تلزم بالنذر . ومما يحتج به للوجوب [ ص: 88 ] ما روى أبو بردة جابر الجعفي عن أبي جعفر قال : " نسخت الأضحية كل ذبح كان قبلها ، ونسخت الزكاة كل زكاة كانت قبلها ، ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله ، ونسخ غسل الجنابة كل غسل كان قبله " ، قالوا : فهذا يدل على وجوب الأضحى ؛ لأنه نسخ به ما كان قبله ، ولا يكون المنسوخ به إلا واجبا ، ألا ترى أن كل ما ذكره أنه ناسخ لما قبله فهو فرض أو واجب ؟ قال : وهذا عندي لا يدل على الوجوب ؛ لأن نسخ الواجب هو بيان مدة الوجوب ، فإذا بين بالنسخ أن مدة الإيجاب كانت إلى هذا الوقت لم يكن في ذلك ما يقتضي إيجاب شيء آخر ، ألا ترى أنه لو قال قد نسخت عنكم العتيرة والعقيقة وسائر الذبائح التي كانت تفعل لم تكن فيه دلالة على وجوب ذبيحة أخرى ؟ فليس إذا في قوله : " نسخت الأضحية كل ذبيحة كانت قبلها " دلالة على وجوب الأضحية ، وإنما فائدة ذكر النسخ في هذا الموضع بالأضحية أنه بعدما ندبنا إلى الأضحية لم تكن هناك ذبيحة أخرى واجبة . ومما يحتج به من نفى وجوبها ما حدثنا أبو بكر قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع إبراهيم بن عبد الله قال : حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال : حدثنا مندل بن علي عن أبي حباب عن عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس . وحدثنا الأضحى علي فريضة وهو عليكم سنة قال : حدثنا عبد الباقي سعيد بن محمد أبو عثمان الأنجذاني قال : حدثنا الحسن بن حماد قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليم عن عبد الله بن محرز عن عن قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنس بن مالك . وحدثنا أمرت بالأضحى والوتر ولم تعزم علي قال : حدثنا عبد الباقي محمد بن علي بن العباس الفقيه قال : حدثنا قال : حدثنا عبد الله بن عمر محمد بن عبد الوارث قال : حدثنا أبان عن عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ابن عباس ففي هذه الأخبار أنها ليست بواجبة علينا ، إلا أن الأخبار لو تعارضت لكانت الأخبار المقتضية للإيجاب أولى بالاستعمال من وجهين : أحدهما : أن الإيجاب طارئ على إباحة الترك ، والثاني : أن فيه حظر الترك وفي نفيه إباحة الترك ، والحظر أولى من الإباحة . ثلاث هن علي فريضة ولكم تطوع : الأضحى والوتر والضحى
ومما يحتج به في نفي الوجوب ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثنا أبو داود هارون بن عبد الله قال : حدثنا عبد الله بن يزيد قال : حدثني سعيد بن أيوب قال : حدثني عياش القتباني عن عيسى بن هلال الصدفي عن ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عبد الله بن عمرو بن العاص فلما جعل هذه الأشياء بمنزلة الأضحية دل على أن الأضحية غير واجبة ؛ إذ كان فعل هذه الأشياء غير واجب . وحدثنا أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة فقال رجل : أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى أفأضحي بها ؟ قال : لا ، [ ص: 89 ] ولكن تأخذ من شعرك وأظفارك وتقص شاربك وتحلق عانتك فتلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل محمد بن بكر قال : حدثنا قال : حدثني أبو داود قال : حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي عيسى قال : حدثنا عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب أبي عياش عن قال : جابر بن عبد الله إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، اللهم منك ولك عن محمد وأمته ، باسم الله والله أكبر ثم ذبح . ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجئين ، فلما وجههما قال : إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة
قالوا : ففي ذبحه عن الأمة دلالة على أنها غير واجبة ؛ لأنها لو كانت واجبة لم تجز شاة عن جميع الأمة . قال : وهذا لا ينفي الوجوب ؛ لأنه تطوع بذلك ، وجائز أن يتطوع عمن قد وجب عليه كما يتطوع الرجل عن نفسه ولا يسقط ذلك عنه وجوب ما يلزمه . ومما يحتج من نفى الوجوب ما قدمنا روايته عن أبو بكر السلف من نفي إيجابه ، وفيه الدلالة من وجهين على ذلك :
أحدهما : أنه لم يظهر من أحد من نظرائهم من السلف خلافه ، وقد استفاض عمن ذكرنا قولهم من السلف نفي إيجابه والثاني : أنه لو كان واجبا مع عموم الحاجة إليه لوجب أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف لأصحابه على وجوبه ، ولو كان كذلك لورد النقل به مستفيضا متواترا وكان لا أقل من أن يكون وروده في وزن ورود إيجاب صدقة الفطر لعموم الحاجة إليه ، وفي عدم النقل المستفيض فيه دلالة على نفي الوجوب .
ويحتج فيه بأنه لو كان واجبا وهو حق في مال لما اختلف حكم المقيم والمسافر فيه كصدقة الفطر ، فلما لم يوجبه على المسافر دل على أنه غير واجب . أبو حنيفة
ويحتج فيه أيضا بأنه لو كان واجبا وهو حق في مال لما أسقطه مضي الوقت ، فلما اتفق الجميع على أنه يسقط بمضي أيام النحر دل على أنه غير واجب ؛ إذ كانت سائر الحقوق الواجبة في الأموال نحو الزكاة وصدقة الفطر والعشر ونحوها لا يسقطها مضي الأوقات .