قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد : " لا بأس والثوري ولا بأس بأن يحرقوا الحصون ويقصدوا به المشركين ، وكذلك إن تترس الكفار بأطفال المسلمين رمي المشركون ، وإن أصابوا أحدا من المسلمين في ذلك فلا دية ولا كفارة " وقال برمي حصون المشركين ، [ ص: 274 ] وإن كان فيها أسارى وأطفال من المسلمين ، : " فيه الكفارة ولا دية فيه " وقال الثوري : " لا تحرق مالك لقوله تعالى - : سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى من المسلمين لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما إنما صرف النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لما كان فيهم من المسلمين ، ولو تزيل الكفار عن المسلمين لعذب الكفار " .
وقال : " الأوزاعي لم يرموا ؛ لقوله : إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين ولولا رجال مؤمنون الآية " قال : " ولا يحرق المركب فيه أسارى المسلمين ، ويرمى الحصن بالمنجنيق ، وإن كان فيه أسارى مسلمون ، فإن أصاب أحدا من المسلمين فهو خطأ ، وإن جاءوا يتترسون بهم رمي وقصد العدو " ، وهو قول وقال الليث بن سعد : " لا بأس بأن يرمى الحصن ، وفيه أسارى أو أطفال ، ومن أصيب فلا شيء فيه ، ولو تترسوا ففيه قولان : الشافعي
أحدهما : يرمون . والآخر : لا يرمون إلا أن يكونوا ملتحمين ، فيضرب المشرك ويتوقى المسلم جهده ، فإن أصاب في هذه الحال مسلما فإن علمه مسلما فالدية مع الرقبة ، وإن لم يعلمه مسلما فالرقبة وحدها " قال : نقل أهل السير أبو بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان ، وقد علم صلى الله عليه وسلم أنه قد يصيبهم وهو لا يجوز تعمدهم بالقتل ، فدل على أن كون المسلمين فيما بين أهل الحرب لا يمنع رميهم ؛ إذ كان القصد فيه المشركين دونهم وروى عن الزهري عبيد الله بن عبد الله عن عن ابن عباس الصعب بن جثامة قال : . سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم ، فقال هم منهم
فقال : أغر على أسامة بن زيد أبنى صباحا وحرق ، وكان يأمر السرايا بأن ينتظروا بمن يغزو بهم ، فإن أذنوا للصلاة أمسكوا عنهم ، وإن لم يسمعوا أذانا أغاروا وعلى ذلك مضى الخلفاء الراشدون . وبعث النبي صلى الله عليه وسلم
ومعلوم أن من أغار على هؤلاء لا يخلو من أن يصيب من ذراريهم ونسائهم المحظور قتلهم ، فكذلك إذا كان فيهم مسلمون وجب أن لا يمنع ذلك من شن الغارة عليهم ورميهم بالنشاب وغيره ، وإن خيف عليه إصابة المسلم فإن قيل : إنما جاء ذلك ؛ لأن ذراري المشركين منهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثالصعب بن جثامة قيل له : لا يجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم في ذراريهم أنهم منهم في الكفر ؛ لأن الصغار لا يجوز أن يكونوا [ ص: 275 ] كفارا في الحقيقة ولا يستحقون القتل ولا العقوبة لفعل آبائهم في باب سقوط الدية والكفارة .
وأما احتجاج من يحتج بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية ، في منع رمي الكفار ؛ لأجل من فيهم من المسلمين ، فإن الآية لا دلالة فيها على موضع الخلاف وذلك ؛ لأن أكثر ما فيها أن الله كف المسلمين عنهم ؛ لأنه كان فيهم قوم مسلمون لم يأمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوا مكة بالسيف أن يصيبوهم وذلك إنما يدل على إباحة ترك رميهم والإقدام عليهم ، فلا دلالة على حظر الإقدام عليهم مع العلم بأن فيهم مسلمين ؛ لأنه جائز أن يبيح الكف عنهم ؛ لأجل المسلمين وجائز أيضا إباحة الإقدام على وجه التخيير ، فإذا لا دلالة فيها على حظر الإقدام فإن قيل : في فحوى الآية ما يدل على الحظر ، وهو قوله : لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فلولا الحظر ما أصابتهم معرة من قتلهم بإصابتهم إياهم قيل له :
قد اختلف أهل التأويل في معنى المعرة ههنا . فروي عن أنه غرم الدية ، وقال غيره : الكفارة ، وقال غيرهما : الغم باتفاق قتل المسلم على يده ؛ لأن المؤمن يغتم لذلك ، وإن لم يقصده وقال آخرون : العيب وحكي عن بعضهم أنه قال : " المعرة الإثم " ، وهذا باطل ؛ لأنه - تعالى - قد أخبر أن ذلك لو وقع كان بغير علم منا ؛ لقوله تعالى - : ابن إسحاق لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ولا مأثم عليه فيما لم يعلمه ، ولم يضع الله عليه دليلا ، قال الله - تعالى - : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم فعلمنا أنه لم يرد المأثم . ويحتمل أن يكون ذلك كان خاصا في أهل مكة لحرمة الحرم ، ألا ترى أن المستحق للقتل إذا لجأ إليها لم يقتل عندنا ؟ وكذلك الكافر الحربي إذا لجأ إلى الحرم لم يقتل ، وإنما يقتل من انتهك حرمة الحرم بالجناية فيه فمنع المسلمين من الإقدام عليهم خصوصية لحرمة الحرم . ويحتمل أن يريد : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات قد علم أنهم سيكونون من أولاد هؤلاء الكفار إذا لم يقتلوا فمنعنا قتلهم لما في معلومه من حدوث أولادهم مسلمين . وإذا كان في علم الله أنه إذا أبقاهم كان لهم أولاد مسلمون أبقاهم ولم يأمر بقتلهم وقوله : لو تزيلوا على هذا التأويل ، لو كان هؤلاء المؤمنون الذين في أصلابهم قد ولدوهم وزايلوهم لقد كان أمر بقتلهم ، وإذا ثبت ما ذكرنا من جواز الإقدام على الكفار مع العلم بكون المسلمين بين أظهرهم وجب جواز مثله إذا تترسوا بالمسلمين ؛ لأن القصد في الحالين رمي المشركين دونهم ومن أصيب منهم فلا دية فيه ولا كفارة ، كما أن من أصيب برمي حصون الكفار من [ ص: 276 ] المسلمين الذين في الحصن لم تكن فيه دية ولا كفارة ولأنه قد أبيح لنا الرمي مع العلم بكون المسلمين في تلك الجهة ، فصاروا في الحكم بمنزلة من أبيح قتله فلا يجب به شيء ، وليست المعرة المذكورة دية ولا كفارة ؛ إذ لا دلالة عليه من لفظه ولا من غيره . والأظهر منه ما يصيبه من الغم والحرج باتفاق قتل المؤمن على يده على ما جرت به العادة ممن يتفق على يده ذلك وقول من تأوله على العيب محتمل أيضا ؛ لأن الإنسان قد يعاب في العادة باتفاق قتل الخطإ على يده ، وإن لم يكن ذلك على وجه العقوبة .