قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية . قال ظاهر الآية يقتضي وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة ؛ لأنه جعل القيام إليها شرطا لفعل الطهارة ، وحكم الجزاء أن يتأخر عن الشرط ، ألا ترى أن من أبو بكر إنما يقع الطلاق بعد الدخول ، وإذا قيل : ( إذا لقيت زيدا فأكرمه ) أنه موجب للإكرام بعد اللقاء ؟ وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة أنه مقتضى اللفظ وحقيقته ؛ ولا خلاف بين قال لامرأته : ( إن دخلت الدار فأنت طالق ) السلف والخلف أن القيام إلى الصلاة ليس بسبب لإيجاب الطهارة وأن وجوب الطهارة متعلق بسبب آخر غير القيام ، فليس إذا هذا اللفظ عموما في إيجاب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة ، إذ كان الحكم فيه متعلقا بضمير غير مذكور . وليس في اللفظ أيضا ما يوجب تكرار وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة من وجهين :
أحدهما : ما ذكرنا من تعلق الحكم بضمير غير مذكور يحتاج فيه إلى طلب الدلالة عليه من غيره والثاني : أن ( إذا ) لا توجب التكرار في لغة العرب ؛ ألا ترى أن من قال لرجل : ( إذا دخل زيد الدار فأعطه درهما ) فدخلها مرة أنه يستحق درهما ، فإن دخلها مرة أخرى لم يستحق شيئا ؟ وكذلك من قال لامرأته : ( إذا دخلت الدار فأنت طالق ) فدخلتها مرة طلقت ، فإن دخلتها مرة أخرى لم تطلق ؛ فثبت بذلك أنه ليس في الآية دلالة على وجوب تكرار الطهارة لتكرار القيام إليها . .
فإن قيل : فلم يتوضأ أحد بالآية إلا مرة واحدة . قيل له : قد بينا أن الآية غير مكتفية بنفسها في إيجاب الطهارة دون بيان مراد الضمير بها ، فقول القائل : " إنه لم يتوضأ بالآية إلا مرة واحدة " خطأ ؛ لأن الآية في معنى المجمل المفتقر إلى البيان ، فمهما ورد به البيان فهو المراد الذي به تعلق الحكم على وجه الإفراد أو التكرار على حسب ما اقتضاه بيان المراد ، ولو كان لفظ الآية عموما مقتضيا للحكم فيما ورد فيه غير مفتقر إلى البيان لم يكن أيضا موجبا لتكرار الطهارة عند القيام إليها من جهة اللفظ ، وإنما كان يوجب التكرار من جهة المعنى الذي علق به وجوب الطهارة وهو الحدث دون القيام إليها . وقد حدثنا من لا أتهم قال : حدثنا أبو مسلم الكرخي قال : حدثنا أبو عاصم عن عن سفيان علقمة [ ص: 330 ] بن مرثد عن عن أبيه قال : سليمان بن بريدة مكة خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه ، فقال له : يا رسول الله صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال : عمدا فعلته عمر . وحدثنا من لا أتهم قال : حدثنا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح محمد بن يحيى الذهلي قال : حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال : حدثنا عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عبد الله بن عبد الله بن عمر قال : قلت له : أر أيت وضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر عمن هو ؟ قال حدثتنيه عبد الله بن عمر أسماء بنت زيد بن الخطاب : أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر ، فلما شق ذلك على رسول الله أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث ، فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك ففعله حتى مات فقد دل الحديث الأول على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للطهارة ؛ إذ لم يجدد النبي صلى الله عليه وسلم لكل صلاة طهارة ، فثبت بذلك أن فيه ضميرا به يتعلق بإيجاب الطهارة . وبين في الحديث الثاني أن الضمير هو الحدث لقوله : ووضع عنه الوضوء إلا من حدث . ويدل على أن الضمير فيه هو الحدث ما روى عن سفيان الثوري عن جابر عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة عن أبيه قال : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية ، فأخبر أن الآية نزلت في كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراق ماء نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يكلمنا حتى يأتي أهله فيتوضأ وضوءه للصلاة ، فقلنا له في ذلك حين نزلت آية الرخصة : . وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال : أخبرنا إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة محمد بن علي بن زيد أن حدثهم قال : حدثنا سعيد بن منصور إسماعيل بن إبراهيم قال : أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن : ابن عباس . قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء ، فقدم إليه الطعام ، فقالوا : ألا نأتيك بوضوء ؟ قال : إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة : سألوه عن أبو بكر فأخبر أنه أمر بالوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة . وروى الوضوء من الحدث عند الطعام أبو معشر المدني عن عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة ؛ وهذا يدل على أن الآية لم تقتض إيجاب الوضوء لكل صلاة من وجهين : لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك
أحدهما : أن الآية لو أوجبت ذلك لما قال : ( لأمرت في كل صلاة بوضوء ) والثاني : إخباره بأنه لو أمر به لكان [ ص: 331 ] واجبا بأمره دون الآية . وروى عن مالك بن أنس : زيد بن أسلم إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم قال : إذا قمتم من المضجع يعني النوم وقد كان رد السلام محظورا إلا بطهارة .
وروى عن قتادة عن الحسن حصين أبي ساسان عن المهاجر قال : . وحدثنا أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ ، فسلمت عليه ، فلما فرغ من وضوئه قال : ما منعني أن أرد عليك السلام إلا أني كنت على غير وضوء قال : حدثنا عبد الباقي بن قانع محمد بن شاذان قال : حدثنا قال : أخبرني معلى بن منصور محمد بن ثابت العبدي قال : حدثنا قال : انطلقت مع نافع في حاجة إلى ابن عمر ، فلما قضى حاجته من ابن عباس كان من حديثه يومئذ قال : ابن عباس المدينة وقد خرج من غائط أو بول ، فخرج عليه رجل فسلم عليه ، فلم يرد عليه ، ثم إن النبي ضرب بكفيه على الحائط ثم مسح وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه إلى المرفقين ، ثم رد على الرجل السلام وقال : لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على وضوء أو قال : على طهارة . فهذا يدل على أن رد السلام كان مشروطا فيه الطهارة ، وجائز أن يكون ذلك كان خاصا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يرو أنه نهى عن رد السلام إلا على طهارة . ويدل على أن ذلك كان على الوجوب أنه تيمم حين خاف فوت الرد ؛ لأن رد السلام إنما يكون على الحال ، فإذا تراخى فات ، فكان بمنزلة من بينما النبي صلى الله عليه وسلم في سكة من سكك فيجوز له التيمم . وجائز أن يكون قد نسخ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يكون هذا الحكم قد كان باقيا إلى أن قبضه الله تعالى . وقد روي عن خاف فوت صلاة العيد أو صلاة الجنازة إن توضأ أبي بكر وعمر وعثمان أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة ؛ وهذا محمول على أنهم فعلوه استحبابا وقال وعلي سعد : ( إذا توضأت فصل بوضوئك ما لم تحدث ) . وقد روى عن ابن أبي ذئب شعبة مولى ابن عباس أن كان يتوضأ لكل صلاة ويتأول قوله تعالى : عبيد بن عمير إذا قمتم إلى الصلاة فأنكر ذلك عليه وقد روي نفي إيجاب الوضوء لكل صلاة من غير حدث عن ابن عباس ابن عمر وأبي موسى وجابر بن عبد الله وعبيدة السلماني وأبي العالية وسعيد بن المسيب وإبراهيم ؛ ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك . والحسن